وداعا(خضير المنادي )لقد عشت حميدا ومت مستورا


وداعا(خضير المنادي )لقد عشت حميدا ومت مستورا


وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://www.ararnews.com/2663886.html

في الوقت الذي تتجهز الجماهير في مدينتي عرعر الحبيبة للصلاة على العم الوجيه : خضير المنادي بعد صلاة العصر اتصل علي عالم من علماء العربية في وطن عربي شقيق وكان يحدثني عن مشروع لغوي يتعلق بتعريب الشارع العربي والنهوض باللغة العربية عينا ويدا ولسانا من خلال جمع المبادرات في هذا المجال ، كان يحدثني عن حامية الهوية وحاضنة الحضارة وحافظة التراث وصانعة جيل المعرفة …

لاأخفيكم أنني لم أكن معه لأن همي في تلك اللحظة أكبر من كل هموم العروبة اليوم ، وكنت حزينا حدا لايوصف لأنني أحس بجزء من كبدي قد تفتت ولساني غير قادرعلى مبادلة العبارات مع الضيف العزيز ، كان يحدثني عن همومه التي هي همومنا جميعا وكنت أود أن أحدثه عن همي الخاص ، أحدثه عما يقابل العربية في روحي ألا وهو العربي الذي لاقيمة للعربية بدونه هو وأمثاله فقيدينا العم الوجيه خضير أبو عبدالله الذي أحببته وأحبني وأحب كل أبناء جيلي الذي كان أستاذه الأول ومدرسته الأخلاقية الكبرى ، كنت أود أن أحدثه عن صانع القيمة الأخلاقية الكبرى فيما يجب أن تكون عليه الشخصية العربية الموضوعية البسيطة التي لم يستطع أن يزيفها الزمان ولا المكان ولم تفلح كل القوى في نزعها من جلباب عروبتها التي تستتر بثوب الأصالة والعراقة وملامح الصحراء ولباقة أهاليها ، كنت أود أن أحدثه عن العربي الأشم النبيل الذي أسأل الله ألا يكون العربي الأخير وشخصيتة النبيلة التي نسمع عنها ولم نرها في قصص الأولين ، عن بوابة المدن الفاضلة ونوافذ الهواء الطلق التي تعالج كل فساد اجتماعي وبذاءة لسانية وتهذب البشر من حولها لينعموا بالعيش والتسامح والكرامة والوئام ، عن العربي الذي لايرضى الذل ويأبى الضيم ويرفض الإساءة لمخلوق في حضرته ويحارب المظلومية بكل أنواعها ويهاجم بشراسة كل متطاول على قيم العروبة وآداب المجلس وبداوة الصحراء التي لم تلطخها في ذاكرته الجمعية أيدي الجهل والارتزاق والبؤس وتطمس هوية أهلها البيضاء ..

هناك جوانب كثيرة في حياة أبي عبدالله لم يعرفها إلا من كان لصيقا له ومن كان مجالسا له ، ومالم ألمسه منه مشافهة كان أبي يحدثني عنه باستفاضة وكان أكثر مايأسرني به ذلك النبيل هو اطمئنانه على أصدقائه الغائبين بوفاء عجيب وميزان عادل يعطي الإنسان قيمته الحقيقية ويرسم لوحته الخالدة ، كنت أزوره في كل مرة وأشعر وأنا بين يديه أن هذه الشخصية ليست اعتيادية بحكم مايحمله من تجارب وأحاديث ولباقة وأدب جم ، وربما الذي ساعده على ذلك أنه تحمل مسؤوليات الكهول وهو غض الشباب وتحمل هموم المجموع وهو فرد ، فأدى تضحياته الاستثنائية للعالم الإنساني بكل رضا ولم يبخل على ذوي الحاجات بجاهه وماله وبيته ، وعارك التجارب حتى عركها وسيطرعلى نفسه حتى أصبح يقودها ولاتقوده ، لايخلو منطقه من توجيه لشاب ولا من قيمة غائبة يراها ضرورة لمجتمع متفلت غارق في المدنية يزهد في قيم الصحراء في حين يراها غيره ترفا وتمدنا ، له فلسفة الأزمنة ومنطق الأشياء التي يعجز عن فهمها الكثير ، ملك ناصيتها حتى أحبه الجميع وأصبح الأب الروحي لجيلنا بأكمله…

لاأدري بعد كل هذا الغياب الذي سيطول ولاأعرف إلى أي مدى إنساني سيكون حزن عرعر وأجهل صدقا كيف يمر الوجد إليه استثناء لايوصف وكيف تبقى لوافح الحرقة عليه استجداء لاينفذ ، فالمجلس سيبقى مفتقرا إليه أبدا سرمديا لايفنى ولايعدم والأحباب سيتجمعون على الدوام على عتباته يندبون محمود السجايا وطيب الخصال الذي إن غاب شخصه فسيرته خالدة تعطر تلك الدار التي لم يبرحها طيلة نصف قرن تقريبا استئناسا بأريج صوته الذي لايضيع وحشرجته التي لاتفنى وطوله الفارع وجلسته المميزة رحمه الله، بيته بسيط ومجلسه أبسط وحكمته طاغية على كل مشاهد حياته ، ولكنه يمشي دونما مزايدة ومفاخرة وطغيان ومبالغة ويتهادى في وسط ممن حملوا عبق الكرام وسبيل الجود منذ بدء الخليقة ، لم يفاخر وهو القادر إلا بما يملكه من صفات وقيم في حين يفخرالآخرون بالعمران الخالي من روح القيم ودماء النبالة ، مشع ومنير ومشرق كأنه في كل ليلة بدرها المنير وفي كل نهار شمسه الوهاجة ، لايزال حتى موته رحمه الله وإلى آخر ليلة بين أوفيائه قائما على عادته بين جلاسه ينادمهم وينادمونه في ظلام يستنير بوجوههم الكريمة وأخلاقهم الرفيعة فيودعوه حتى يبدأ صباح جديد في نهار الإنسانية العذب وجدليتها المتتابعة وصداقات لو أدركها المؤلفون القدماء كأبي حيان التوحيدي لجعلوها فصولا في ثنايا كتبهم عن الصداقة والصديق ولو أدركها علماء الاجتماع القدماء كابن خلدون لوضعوها ديباجات في مقدمة كتبهم لتصوير المجتمع المتسامح والشخوص المهذبين لأنفسهم وللناس من حولهم…

أبوعبدالله خضير ، أكبر من الفقد والحنين ، وأعظم من النسيان والسلوان ، والحزن عليه والله العظيم أشد نكاية من حزن الثكالى والصبر على غيابه أشد ماتكون البلوى ، أحببته واحترمته وبكيت عليه ، وكيف لاأرثيه وهو المحور الذي تجمعت حوله الدوائر وكيف لاأبكيه وهو المركز الذي تلتقي عنده الأضلاع كلها ، أجلس معه وكأنني محتب بفناء الرجولة وظل الأبوة والخلق الرفيع ويقدم قبل كرم الضيافة نبل أخلاقياته وصدق عباراته ويحف كل ذلك بالرعاية والمحبة والاهتمام اللواتي لاتنتهي حتى أستأذنه بقبلة على جبينه – يافدى عينيه – على أمل أن نلتقي في زيارة قريبة قادمة لعرعر ولم أكن أعلم أن لقاء العيد الأخير سيكون آخر لقاء به يافداه ، كانت قناعته ألا يكون نجما يخطف سنا برقه الأبصار بل نجوما كثيرة في مجرة من مجرات التاريخ تضيء الدروب القاحلة للسائرين بصمت ودون ضجيج يفسد النوايا الحسنة ، صمت يدرك الكثيرون أسراره حيثما يجب أن يكون النبلاء الذين وحدهم يعرفون أن صمت وهدوء أبي عبدالله هوصمت المنجزين وهدوء الخالدين وصبر القانعين الذين ينحسرون عن الأضواء التي يتجمع حولها دوما الفراش الصغير ليتركوا للتاريخ مهمته العظمى في إنصاف الناس الحقيقيين وهم على رأس تلك الإنسانية …

أبوعبدالله ، حمل رسالة مهمة في هذا العصر وغذاها بدم عروقه وأتعبها بخطاه المتعثرة حينا والمتقحمة الصعاب أحيايين كثرة لتبقى خالدة لاتمحوها رحى الأيام مهما تدور عليها الحوادث ومهما تتحطم على جنباتها الليالي ، رسالته رسالة العدل والحق المبين وقناته قناة العزم التي لاتلين ومداده المداد الذي لايمحوه تعاقب السنين ، فابشر أبا عبدالله لقد بلغت رسالتك الخالدة ونم قرير العين فالمخاوف كلهن أمان بحول الله جل وعلا، ولاأخفيكم جميعا إن كان ضياع الدين يكون بقبض العلماء فضياع المجتمع أيضا يكون بقبض العقلاء ، وأبو عبدالله أشهد الله وملائكته والناس أجمعين أنه كان من أعقل العقلاء في هذا الزمان رحمه الله…

وأخيرا بحجم كل ذلك الحب الذي بادلني به شخصيا أبكيه في هذه الدنيا رحمه الله وأنعاه للعالم أجمع ولشرفاء العروبة وقيم الصحراء الزاهية ، فما أشد وطأة غيابه المفاجيء على محبيه وأصدقائه .. وكل العزاء لأسرة الفقيد دونما استثناء ولكم ولعرعر الحبيبة في فقيد علم من أعلامها ، وكان الله في عوننا جميعا وإلى جنات النعيم أبا عبدالله ….


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com