فقد بان محمُوداً أَخي حين ودَّعا


فقد بان محمُوداً أَخي حين ودَّعا


وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://www.ararnews.com/2670508.html

بسم الله الرحمن الرحيم

فَقَدْ بَانَ مَحْمُوداً أَخِي حِينَ وَدَّعَا

تأبينا … للشيخ الصديق متعب بن مدبغ الكويكب رحمه الله .

وقفت على قبر الصديق الوفي والأخ الخالد “متعب “وهم يوارون جثمانه التراب ، وأحس أن روحي المتعبة من ليلة البارحة تصرخ في جوانب الدرعية التي أحببتها قبلا لارتباطها بتاريخ آل سعود الكرام وبعدا حيث ضمت جسد “متعب “بين تلك القبور التي تحكي شواهد وادي حنيفة للتاريخ الإنساني والأزمنة الخالدة وصفحات الجغرافيا وخطوط الطول ودوائر العرض التي تستعصي على النسيان …

أَخِلاَّيَ لَوْ غَيرُ الحِمَامِ أصابَكُمْ عَتِبْتُ ولكنْ ما عَلى الدَّهْرِ مَعْتَبُ

سافرت عن كل تلك الضوضاء التي عادة ماتكون حول القبور التي يهيؤونها لميت جديد ، هؤلاء يختارون قبرا وأولئك يعجنون طينا وغيرهم يطلبون لبنا وآخرون يطلبون ماء ، وأوجعني أن كل ذلك كان لأخي “متعب “المسجى بين أيدينا وكان قد عهدته يكره السكون ليقف تقديرا وتواضعا في وجه الطفل والشاب والرجل ومن يعرف ومن لايعرف….

سافرت إلى عوالم من الدهشة مملوءة بالذكريات الشاهدة على عصور وليس عصرا واحدا مر بنا في موكبه الذي اخترق كل هذه الحواجز دونما هواجس أمنية ، وسمعت متمم بن نويرة يرثيه بلساني …

لقد غَيَّب اْلمِنْهَالُ تحت رِدَائه فَتىً غَيرَ مبطَانِ العَشِيّات أَرْوعَا

فإن تَكُـنِ الأيّـــام فَــرقْن بَيْنـنـا فقَـد بـان مَحْمـــوداً أخِي حِين وَدَّعا

وكُنَا كَنَـدْمَــانَـي جَـذِيمة حِقْبَــةً من الدَهـر حتـى قِيــل : لـن يَتَصَدًعا

فلمّـا تَفرقْـنـا كـأنِّـي ومـالِـكـاً لِطُول اجتـمـاعٍ لــم نَبِـت ليـلةً معا

الآن ولمتعب فقط …

أحسست بضلوع تطابقت على الجوى المكلوم وذقت كأس الفقد ولوعة الفراق ودماء سخينة تذرف منذ ليلة البارحة بحرقة مثل حرقة دموع أخيه سعد مدبغ التي أشهد الله أنني أول مرة أرى دموعا كالمطر المنهمر ، والموجع في هذه اللحظات أن اللقاء قد تعذر بمتعب في هذه الدنيا وأصبح ذلك الطهر الإنساني المملوء بالحياة عاجزاً هذه المرة عن القدرة والحركة في صورة تختصر حقيقة هذه الدنيا الفانية التي أثقلت قلوبنا بكل هذا الفقد وكان آخرهم قبر متعب هذا…

سَقَى اللهُ أَرْضَاً حَلَّهَا قَبْرُ مَالكٍ… ذهَابَ الغَوَادِي المُدْجناتِفَأمْرَعَا

الآن ولمتعب فقط …

لم يدرك ذلك الحارس الذي يوزع عند بوابة المقبرة رقم قبره على المغادرين أن متعب مدفون في صدورنا جميعا وأن قبره بحجم كل هذه الأرض التي ملأها حضورا وبهاء ونجاحا ذات يوم…

لَقَدْ لامنِي عِنْدَ القُبُورِ عَلَى البُكَا رَفِيقي لِتذْرَافِ الدُّموعِالسَّوَافكِ

وَقَالَ أتْبكِي كُلَّ قَبْرٍ رَأَيْتهُ لِقَبْرٍ ثَوَى بَيْنَ اللّوَى فَالدَّكَادكِ

فَقُلْتُ لهُ إنَّ الأسَى يَبْعَثُ الأَسَى فَدَعْنِي فَهَذا كُلُّهُقَبْرُ مَالكِ

يالله ، ونحن نغادره أحسست بعجزي عن تصويري قبره لهيبته التي أدركها في عيون كل من نقابله ، وتساءلت يالله هل يعقل أنه لم يبق في ذاكرة الأيام إلا ضحكاتنا التي كانت تملأ الأرجاء وتعليقاتنا حول رغيف الخبز وعشاء البسطاء الذين زهدوا في كل النعيم المحيط بهم ، وخطواتنا التي كانت على خريطة بحجم قلب متعب الجميل ، الذي عمَّرهُ بقناعة بالحب والتسامح والمعروف وكل ماتعنية النبالة التي وصفوا بها أعراق الفرسان على مر التاريخ …

“متعب ” هو الأخ والصديق وتِرْبُ الحياة وسميرُ الوحدة , ومستودعالأسرار, وهو النجيُّ قبلَ النوم , والظل الوارف في اللواهيب تحت الشموس …

“متعب” الذي اختار الصحراء في آخر حياته كما يختار العظماء مصيرهم ليموت بين يديها وهي تمسح على رأسه ووجهه الوضاءوتضمه على صدرها وتحاول أن تبعث فيه الحياة من جديد على الرغم من كل الغربة التي كانت باتساع الفجاج التي لاتنتهي ، وباستحالة الأسئلة التي لم يجد لها جوابا عند بعض الناس الذين أحسن لهم ، كان عظيما يعشق نهايته الخالدة وعلى طريقته لاطريقتهم تلك …

ياترى ماذا كانت تعني تلك الصحراء لرجل عظيم مثل متعب ، قادر على السكن ببيوت من ذهب وفضة وغير عاجز عن أن يقضي بقية حياته في أفخم الفنادق والمدن وراء المحيطات …

وجوابا أعتقد أن روحه الطاهرة المتواضعة كانت تبحث عن أكبر مساحات من الفضاء الأخلاقي لتسبح وحدها بتمدد يليق بكبريائهاالتاريخي وعراقتها المتناسلة للهدوء دون ضجيج ، روحه التي تعجزعن احتوائها المدن وطرقها المتعرجة وجسورها المعلقة وإنسانها المتوحش ، روحه التي لم يفتنها لمعان الفضة وبريق الذهب ولم تغيرها أرقام الأرصدة ، وما أزهده حينما ترك كل ذلك وراءه ومشى بإرادته إلى قيم العرب وأخلاق الصحراء …

“متعب “مثل كوكب دري أضاء لمن حوله ومشى كلهم في نوره على استحياء من النجوم التي تحتفل بباذل كمتعب وصادق كمتعب ونبيل كمتعب وفارس كمتعب وعظيم كمتعب ، وياأسفاه حينما لم نكن نعلم أنه كان يحترق لينير لنا كل هذا الظلام الذي أحاط بنا إحاطة السوار بالمعصم ، أنار كل هذه السنين التي عبرناها معه ولم نشعر من شدة قربه منا وقربنا منه أن بيننا كوكب عظيم ثم غاب فجأة ليجعلنا نصارع وحشة السواد ونتخبط من فرط الحزن بجدران مقبرة الدرعية التيبدأت معها مرحلة جديدة من حياة دونما “متعب “الغالي…

“متعب ” الذي تعجز كل لغات العالم أن تنعاه بما يستحقه ، متعب الذي بكته معنا حروف الأبجدية كلها كما تبكي فارسا نبيلا من عصور الحضارات في نهايات التاريخ واكتفى متعب بأن امتطى صهوة جواد لايمل من القيم والأخلاق والنجدة التي سمعنا عنها والتي كانوا يقولون لنا عنها في رجال الصحراء وكان دائما يحمل رمحه بيده ليقتل الفقر والعوز والحاجة التي تهدد البسطاء في كل غزواته التي انتصر فيها هذا العربي الأشم والقرم الخالد …

متعب كان من رياحين الأرض التي تمنحنا عبقا استثنائيا في دنيانا لايزول مهما غابت نجومه عن لياليها الموحشة والتي كان يؤدبها بصوته الخافت وضحكته الصامتة و عبارته المهذبة وهو في قمة إحباطه من إنسان لم يقدر المعروف …

متعب الذي أوجع غيابه كل منظومات القيم التي عرفها البشر وتصالح عليها النبلاء ليمنحوا الإنسانية معايير التفاضل والتكامل وكل أدوات الهندسة التي رسمت لوغاريتماته على خطى المميزين والموهوبين والمبدعين الذين كانوا في مقدمة المجتمعات البشرية النبيلة وصاغوا مجتمعات ذات قيمة أخلاقية …

متعب الذي سد غيابه على روحي نوافذ الكون ، أتخيله ليلة البارحة نجما يغيب في هذا السديم الذي لاتحتويه عيني الضيقة ولايقواه قلبي الصغير ولا يرى غير متعب فيه هذه اللحظات ، متعب الذي تركنا ونحن أحوج مانكون إليه …

متعب …وكفى

وَمَاانْسدّت الدُّنيا عليّ لِضِيقِهَا وَلكِنّ طَرْفَاً لاأَرَاكَ بِهِ أَعْمَى

ياوجع الراحلين وياخفوق القوافل التي تناسلت من أجل كل ذلك الغياب المصيبة ، وياندم التائبين وسفر المشتاقين …

كلمني صباح الجمعة قبل وفاته بساعات قليلة على غير عادته الساعة العاشرة والنصف وسأل عن حالي وحال أبنائي وكان يتحدث عن المطر وهكذا سحائب الخير تتناغم مع بعضها في حديث لايفهمه إلا الأرض اليباب والكائنات العطاش ، وضحكنا على موضوعين وطلبت منه أن يتعجل لنا فالشوق والله قد اجتمع كما لم يجتمع بقلب بشر يامتعب ، ولم أكن أعلم أن تلك المكالمة وداعية لأخ ماملني وما مللته والله وكان نعيما من الله ليسمعني صوته قبل الرحيل عن هذه الدنيا الفانية التي أتعبته حد الإرهاق والقسوة وأتعبها بالصبر والاحتساب ولم تستطع أن تهزمه أو تنال من شموخه المتأصل في معاركه الخالدة تحت ألوية الكرم والشهامة ، وبعد ساعات حل القضاء المبرم وحلت معه المصائب كلها دفعة واحدة على قلوب كل من كان يعرف متعب …

لَعَمْرُكَ مَا الرَّزِيّةُ فَقْدُ مَالٍ وَلا شَاةٌ تَمُوتُ وَلا بَعِيرُ

وَلكنّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ حُرٍّ يَمُوتُ بِمَوْتِهِ خَلْقٌ كَثِيرُ

وأعرف أسرا كاملة كان يعولها وفقراء كان خير معين لهم وبيوتا عريقة كان يحاول أن يسترها من السقوط ، يعطي عطاء من لايخشى الفقر ، ويتسامح حد الغفلة ويتناسى حد التغافل وهكذا العرب الخالدون في تاريخنا الإنساني من أيام حاتم الطائي إلى عصور متعب الحديثة …

ذات صباح مشرق أدخلني في غرفته الخاصة فرأيت ماأذهلني من أوسمة الشرف التي يمنحونها لرجال الملوك وشهادات مختومة بالشموع الحمراء من شاة إيران وجمال عبد الناصر وزعماء العربوأفريقيا ورؤساء العالم ، صورا نادرة في زياراته مع الملوك الذين أخلص لهم حتى تفانى في وفائه لهم وبادلوه الحب بالحب والاحترام كما هو الوفاء بين الرجال النبلاء ورجال الدولة …

كان دائما يحكي لي وحدي أسرارا لا يحكيها لأحد عن تجربته العظيمة مع عظماء التاريخ ملوك المملكة العربية السعودية ليكون أستاذا لي أتعلم منه في كل مواقف ترهقني وأعجز عن مواجهتها ، وبكل صدق كان بالنسبة لي أعظم شاهد على جزء من تاريخنا الوطني الناصع بمواقفه الوطنية الشريفة ، ولم يكن يملك ذلك إلا متعب المخلص للملوك ورجل الدولة الذي عاصر كل تفاصيلها، وانحسر بعد كل ذلك الوهج إلى الصحراء التي ساعدت في صياغة جلد هذا الاستثناء بهدوء ودون ضجيج وضوضاء..،

كان مدرسة إدارية وأخلاقية وإنسانية باختصار…

مدحه شاعر بحضرتي بمعاني مبالغ فيها وختم بقوله والله ليست فيّهذه المعاني لأني أعرف الناس بنفسي ، أتدرون لماذا ؟ لأن متعب ليس صغيرا بحاجة إلى من يكبر حجمه بالكذب والتزوير ويضخم نفسه المتصالح معها ، لأن متعب عنده من الثقة بتاريخه وعراقته ما يجعله صادقا مع نفسه ومع من حوله ومع معطياته وصفاته التي وهبها الله له أواكتسبهاالتمرين ومخالطة العظماء و أبناء الملوك ورجال المراحل …

” متعب “وحق لرجال العرب العاربة والمستعربة أن يعزوا فيه جميعاوينصبوا بيوت المواساة لهم ولنا على السواء ، وعلى مثل متعبفلتبكي البواكي و على مثل متعب فلتندبه الخصال المجمع عليها وعلى مثل متعب فلتتفجع الأيادي البيضاء التي مدها الكرماء للمعوزين منذ هبوط أبينا آدم إلى يوم القيامة ، فمسحوا بها رأس يتيم وجففوا بمنديلها دمعة ثكلى …

متعب يافداك …

وانّي مَتَى مَا أَدْعُ بِاسْمكَ لا تُجِب وكنتَ جديراً أَنْ تُجِيبَ وتُسمِعا

وعزائي والله أنه صلى الجمعة وقرأ سورة الكهف في خير يوم طلعت فيه الشمس ، سيد الأيام وأعظمها عند الله ، وفي الحديث الذي صححه الإمام الألباني :” مامن مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر…”، فلا حول ولاقوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون واللهم آجرنا بمصيبتنا وأبدلنا خيرا منها ولانقول إلا مايرضي ربنا عز وجل والحمد لله على قدره المؤلم وغفر الله لمتعب الغالي وألهمنا جميعا الصبر والاحتساب والله من وراء القصد…

عميد الموهبة والإبداع

جامعة الإمام محمد بن سعود

الرياض


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com