سائق التاكسي العجوز!


سائق التاكسي العجوز!


وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://www.ararnews.com/2624459.html

المسافة من المجمعة إلى الرياض ساعتين تبتلعني صحراء وتسلمني لأخرى ، الطريق لا يخلو من الزحام ، والليل مبلل بالهواء الحار وشيئا من الرطوبة والدبق ، مكيف التاكسي رديء وبه علة ، وصاحب التاكسي يحدثني ويضحك أحيانا ، لكنها ضحكات مترعة بالبؤس والهم والأسى والتجربة الثرية ، قال لي منذ 40 عاما هو هكذا أنا ، استبدلت خلالها أكثر من سيارة وأكثر من طراز ، رأيت وجوها كثيرة ، وشوارع مختلفة ، وأحياء وأماكن ومدن وقرى وهجر كثيرة ومتعددة ، تزوجت ، وأصبح لي أولاد وبنات وأحفاد بعضهم حي وبعضهم مات ، ركب معي أناس كثيرون ، بعضهم صامت ، وبعضهم ثرثار ، بعضهم تسمع منه كلاما جافا ونابيا ، وبعضهم تسبح شفتيه بالذكر والتهليل والتكبير ، بعضهم يمنح نفسه الأبهة والحضور ، وبعضهم لا يكترث ولا يبالي وغير مرتب ، ركب معي مجرمون ونشالون وأشكال شتى من البشر ، لكن علاقتي مع كل هؤلاء ظلت في حدود الركوب والنزول ، أتوقت بإشارة من أحدهم ، وأمشي كما بدأت ، إلا أن أكثر ما يزعجني ويعكر مزاجي أحيانا قول بعضهم لي بصلف وصفاقة ، نحن دفعنا لك أجرة وسر كما نريد ، لم تركبنا بالمجان! هذه العبارة ومثلها كثير هي التي تصيبني بالوجع وتؤرقني بالكوابيس وتجعلني أسهو كثيرا أثناء القيادة ، وأردف يقول كثيرا ما أسمع الركاب بعضا من النكات والقصص والشعر لقتل المسافة والوقت ، وحينها أختلس النظر إليهم لأجد بعضهم يستمع إلي جيدا بكل متعة ووقار واحترام ، وبعضهم الآخر نائم أو لا يبالي أو يمد لسانه قليلا باستهزاء وتعجب ، أضاف أنا غير مكترث بعقارب الساعة ، ولا أعيرهما أهمية تذكر ، بعد ما أدركت في لحظة صدق داخلي أن متابعة الساعة بالنسبة لي لها وقع الفجيعة المرسومة بالوحل ، وأنا الذي أجد نفسي متناثرا على الطرقات مثل زجاج محطم ، التاكسي التي اتكأت عليها للبحث عن رزقي ، هي نفسها قد اتكأت علي ، حتى صرنا سويا مثل عاشقين مكبلين بالحرمان لحظة إنفراج الأمل ، وأنا المثخن بالجراح ، بل أصل الجرح ونزفه ، لقد تسمرت كثيرا أمام وجوه الآخرين العابرين ، راقبت فيهم أبجديات وتفاصيل كثيرة وعناوين مختلفة ، وأنا المسافر دوما بعينين شاخصتين ترسمان الدقة والسلامة والحذر ، أنظر إلى هذه الأوردة البارزة في كلتا يدي ، وتجاعيد وجهي الذي أصبح مثل دفتر تقويم أصفر وعتيق ، حتى أصبحت كالذي يصرخ بلا صوت ، أو كالحي الذي بلا نبض ، أو كالنبض الذي بلا قلب ، لقد امتصت التاكسي والطرقات والسفر المضني الطويل مني ضوء الحياة وبريقها حتى صار ضوء عيني شحيحا أيضا ويهما شيء من العتمة والانكسار ، في أعماقي حزن بحر عميق لم تسعفني مرساتي في رسم الرسو والدعة والهدوء ، وأنا الذي أرى الحياة حلوة ورائعة وجذابة دون أن أعي خسارتي فيها ، بعد أن دفنت طفولتي وصباي والحلم الذي كنت أحلم خلف المقود والطريق ، آه .. لقد أيقظت في المارد المتخم بالوجع أيها الإنسان العابر ، وأنا الذي قد خيطت كثيرا من جروحي النازفة التي تفتقت في جسدي وفي قلبي ووجداني ، ابتسم وواصل سيره بنشوة ، وتشاغل عني بالانتباه إلى الطريق المنعطف ، دون أن يسمع مني استنكارا أو تعليقا ، لأنني حينها قد عشت شبه غيبوبة لا أدري كيف جاءت ، لكنها جاءت ، في المكان الذي أريد أوقفته ومنحته حزمة النقود التي قد هيأتها له ، أخذها ووضعها أمامه قرب المقود وشكرني بلطف ، وحين هممت بالنزول أبتسم بوجهي ، وقال لي هناك طائرا في العلو يسبح بقوة تعابث أجنحة نتف الغمام ، سأكون مثل ذلك الطائر رغم أنني عجوز!


1 ping

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com