الغد لا يأتي أحياناً


الغد لا يأتي أحياناً



وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://www.ararnews.com/2695729.html

مشاعرٌ حزينةٌ مختلطةٌ تجتاحني بصالة العزاء، حزنٌ يُخيِّم على وجوه الجميع ، همهماتٌ حزينةٌ وأصواتٌ ترتفع بالدعاء للميت وأخرى تبحث عن تفاصيل الوفاة ، إحداهُنَّ تشعر بارتياحٍ لأنها تجد في هذا المكان فرصتها الوحيدة للبكاء و التعبيرعما بداخلها دون أن تُحَمْلِقَ بها عيون الفضول ، أرواحٌ كثيرةٌ أبعدَتْنَا عنهُمُ الحياة والتقينا بهم، يمنعنا الحدث من إظهار سعادتنا لرؤيتهم، تدور الأحاديثُ حول كلماتٍ قالها الميت قبل وفاته أو في الأيام التي تسبق الوفاة، تُرَدَّدُ وكأنها كلماتٌ تاريخيةٌ، الكل يحرِصُ على سماعها وبحزنٍ عميقٍ نبحث عن تفاصيلَ تختبئُ بين ثنايا حروف الكلمة، تأمَّلتُ بداخلي : هل وجدتْ تلك الكلمة اهتماماً بها في وقتها ؟ نحتضنُ أوجاعَنَا بالبحث عن آخر رسالةٍ له، نفتِّشُ بصفحاتِهِ الإلكترونية علناً نجد عبارةً نحلل كلماتها و نتوهم أنها مرسلةٌ لنا، وفي داخلنا صراعٌ قاتلٌ يلسَعُ ذاتنا ويجلِدُها ، يحاسِبُنَا على تقصيرنا وعلى ابتعادنا رغم القربِ المكانِيِّ، نتأمل بصمتٍ يقرَعُ أجراسَ الندم داخلنا :أين كنا منهم وهم بقربنا؟ هل أعطيناهم ما يستحقون من وقتنا؟ هل كانت لكلماتهم تلك التي نردِّدها وزنٌ عندما قالوها وتكلموا بها وهم أحياءٌ يرزقون؟ هل تركنا التحديقَ بشاشةِ هواتفنا لنُصغِيَ إليهم بشوقٍ وشغف؟ هل تفاعلنا معها؟ هل أشعرناهم بجمال عباراتهم؟ هل وَجَدَتْ كلماتُهم تلك الآذان الصاغية؟ كم مرةٍ قطعنا حديثهم ولم يكملوا جملة أرادوا إيصالها لنا، وكم مرة بحثوا عنا واعتذرنا بمشاغلنا، وكم من حديثٍ أخرسٍ دار بيننا وبينهم وكم وكم وكم …..
والآن أمنياتٌ كثيرةٌ وندمٌ كثير، وحزنٌ يعتصر قلوبنا ونحن نستيقظ من غفلتِنَا بعد فوات الأوان؛ فقد رحل من رحل بلا عودةٍ ودون استئذان، تفاجِئُكَ عبارةُ ( انتقل إلى رحمة الله )، تهزُّك الكلمة، تعيدك الذاكرةُ إلى مواقفك معه وإلى ذكرياتٍ كثيرةٍ تجمعكم وإلى تقصيرٍ أكثر، فالموت يباغتنا دائماً، فياليتهم أخبرونا أنهم راحلون، وليتنا توقعنا أن رحلتنا قصيرة معهم وأننا سنشتاق لهم و لحديثهم ولرائحة عطرهم وصدى أصواتهم، لقد كنا غافلين عن حقيقةٍ مرةٍ وهي أن الورقة التي تسقُطُ من الشجرة لا تعود، وهكذا الأموات لا يعودون، تُحْدِثُ سهامُ رحيلهم بالقلب جراحاً غائرةً؛ فتصعَدُ تنهيدةٌ قاتلةٌ تئن وجعاً تطعَنُ قلوبَنَا فنندم بعد جفافِ الأقلام، فما أحمقنا نحن البشر، الموت يحيط بنا كل يوم ولدينا أمل طويل بالحياة؛ ننتظر الغد لأنه قريب وقد لا يأتي ذلك الغد، نحن أقوامٌ للأسف نتقِنُ فن الصمت بامتياز، نحجِّمُ عباراتِ الشكر ونتجاهل مشاعرنا ونكبتها، نتوقع ممن يتعاملون معنا أنهم يقرؤون داخلنا، يلمسون حبنا لهم بأفعالنا البسيطة، نغلق أفواهنا أن تنطق بكلمةِ مديحٍ أو حب أو عبارةِ ثناءٍ، و نمطرهم مدحاً وإطراءاً بعد أن استحال وصولها لهم، كلمات حُرِمُوا منها في حضورهم وغيابهم رغم حاجتهم لها حينها، ورغم قدرتنا على أن نصرِّح بها حجبناها عنهم بغرور وكبرياء وتسويف بأنهم بالغد معنا وسنسمِعُهُمْ ما نريد وكما يقول الشاعر:
لألفينَّك بعدَ الموتِ تندُبُنِي … وفي حياتي ما زودْتَنِي زادِي
أعجب منا البشر لماذا لا نكثر المديح والثناء ونفصِحُ عن مشاعرنا إلا بعد أن يموت من نعرف ؟! لم لا نعرف قيمتهم وثمن وجودهم بحياتنا إلا بعد رحيلهم ؟! لم نخجل من التعبير لهم عن مشاعرنا، عن حبنا، عن حاجتنا لهم عن دَوْرِهِمْ في حياتنا، عن سعادتنا معهم وامتناننا لما يقدمون لنا، وإن مواقفهم معنا ومبادراتهم الجميلة لم تذهب أدراج الرياح، فكم من أمٍ وأبٍ انتظروا لفتة بسيطة من أبنائهم تُعَبِّرُ لهم عن بِرِّهِمْ، تبقى بذاكرتهم قبل أن تُخْرَقَ ذاكرتُهُمْ بداءِ الخَرَفِ والزهايمر؛ فَتَصْرُخُ التنهيداتُ المؤلمةُ من صميمِ القلبِ:
ليت الوقت يعود للوراء لنقدم لهم أشياءَ غفلنا عنها، ليتهم يدركون ويشعرون بلذة ما نقدم لهم، فكم من زوجةٍ تفانت في خدمة أسرتها ولم تنتظر كلمة اعترافٍ أو شكرٍ ولكنها تحتاجها وتشرحُ صدرَها وتعينها على الصبر والتحمل ، وكم من زوجٍ انتظر كلمةً تشعره بالقَبُولِ والرضا والتقدير للدور الذي يقوم به، وكم من ابنٍ وابنةٍ تشوَّقَ جسدُهُ الغَضُّ لحضنٍ دافئٍ ولمسةٍ حانيةٍ من والديه أكثر من احتياجه لجهاز هاتف جديد، كم من صديقةٍ شعرت بسعادةٍ غامرةٍ لكلمة إيجابية قيلت لها في وقتِ ضِيْقٍ وكَدَرٍ، وكم من موظفٍ انتظر كلمة شكر وتحفيز من مديره وأصبحت قيد الانتظار لم يحصل عليها إلا بعد تقاعده، فالاستيقاظ من الغفلةَ الطويلةَ واجبٌ، فكم ورقةٍ سقطت من شجرة العائلة ومن شجرة المعارف فكانت صدمة لنا لم نتوقعها وكأن من نحب مخلدون .
أحبتي لا تنتظروا أن ترسوَ سفنُ مسيركم على جدران المقابر لتذكرونهم وتبثون مشاعركم لهم، فهم الأن يحتاجون دعاءكم والترحُمَ عليهم ، ولكنهم لا يحتاجون مشاعركم. ابتعدوا عن الجفاف والعواطف المتجمدة، لا تنتظروا من الآخرين أن يصرخوا كالأطفال ليعبروا لكم عن احتياجهم، بادروا أنتم باحتواء من تحبون؛ فالحياة رحلتها قصيرة وليس للرحيل جرسُ إنذارٍ مُعْلَنٍ يخبرك بأن روحك ستنشطر إلى نصفين برحيل من تحب، فالأمنيات لا تعيدُ عقارِبَ الزمان ولا تمحو عُقدةَ الذنب التي تمزق أفئدتنا بحسرة الفقد، لا تنتظر أن يفوتك موعد القطار أو أن تصل والطائرة قد أقلعت .
لذلك أقول : قَصِّروا المسافاتِ بينكم وبين من تحبون، أسرعوا الخطى لوالديكم ولمن تحبون؛ فقد تكون خطوات القدر أسرع من خطاكم، لا تؤجلوا المبادراتِ الجميلة ولا تبخلوا بالكلمة الطيبة،

أخبروهم بحبكم لهم وشدة حاجتكم لهم، فعن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ بيده وقال: (يا معاذ! والله إني لأحبك ..) ابتعدوا عن التسويف؛ فحياتنا الحقيقية هي الفترة التي نعيشها وهي اللحظة الراهنة، فالغَدُ ليس لنا إلا بمشيئَةِ الله، فالكاتب ستيفن كوفي يقول: (ابدأ غدك بيومك ).
بادروا في الاعترافات والتبريرات التي قد تغيِّر الكثير من المواقف، تنازلوا في سبيل استمرار الود، تجاهلوا الإساءة وتسامحوا، لا تتعاملوا بالند، التمسوا الأعذار لمن تحبون، أيقظوا مشاعركم بالكلمات والتصرفات المعبرة عن الحب، استمتعوا بلحظاتكم الجميلة واستغلوا أوقاتكم في طاعة الله ومرضاته وتعاملوا مع يومكم وكأنه آخر يوم في حياتكم ؛ لأن الغد لا يأتي أحياناً.

بقلم / سهام الرميح/ عرعر


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com