مدينتي عرعر ( من كتاباته )


مدينتي عرعر ( من كتاباته )


وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://www.ararnews.com/2704548.html

أنا طفل أثرثر في أحضانك الدافئة والتف في لحافك الصوفي الذي صنعته أمي من صوف شياه أبي , أرتمي في ثناياه المسجاة على جسد ” الدوشق الوثير ” بعد أن أضناني اللعب في مراتع الصبا التي اقضيها بين ركضات لاهثة وسباقات تحدي عفوية مع أقران طفولتي البريئة , ونحن نغط في لعب ممتع على مراعي عشبية خضراء بلل سهولها زخات مطر أول الشتاء وسحبه الزاهية التي تزين قبة سماء الصحراء الرحبة وحيث تغرب الشمس تدق أجراس الخوف من المجهول في نفوس الأطفال , ونستحضر قصص جداتنا عن الجنيات والأشباح (تريتره) الذين يخطفون الأطفال حين يبتعدون عن حرم بيوت الشعر , تلملمنا مشاعر العودة إلى البيت وتوسوس لنا حمرة الشفق بأن من وراء التل القريب إذ ينتظرون المساء أن يسدل عباءته القاتمة على الأمكنة ويهرعون علينا وينتشلوننا بأنيابهم الذئبية ومخالب أظافرهم المريبة , فنعدو نسابق المساء وتمتد الخطا نترامى على بعضنا نحلم بأحضان أمهاتنا الحانية وقصص الجدات الشهية التي نقدمنا أحيانا على وجبات طعام العشاء , هكذا نحن كنا أطفالا في باديتنا حول أودية مدينة عرعر قبل أن يودع أهلنا حياة الترحال ويستقرون في مدينة عرعر الحالمة والمدينة الوليدة التي تغفو على ضفاف شفاه وادي عرعر لاستقبال مدينة حضارية واعدة غرستها يدي حكومتنا الرشيدة لتكن أحدى شواهد حركة التنمية الوطنية الشاملة التي تعكس فلسفة النهضة الزاهرة التي تنطلق منها السياسة الوطنية الواعية لحركة التحول الاجتماعي لأن لوحة الرقي بالإنسان السعودي الساعية إلى إعداده للحياة المعاصرة وتهيئته ليكون عنصرا فاعلا في وطنه ومؤثرا في تدوير عملية البناء الكبير الذي تسنه المملكة في بوابة نهضتها , وكان عامل الاستقرار المكاني والنفسي في مقدمة عوامل التهيئة المعاصرة , ولك أن تسترجع الذاكرة أو أنقلك إلى حال واقعها نقلاً حياً على الهواء مباشرة عبر ذاكرة قناتي الفضائية وأنا كنت مراسلاً محترفا وهاويا لهذه القناة الوجدانية , فأنا موظفاً رسمياً أتقاضى راتباً مجزياً قدره عشرة آلاف ريال وفاء استلمه من خزانة الحنين من إدارة أمانة التراث الواقعة في التقاء وادي عرعر وبدنه . ما أجمل أن تطوف عيناك على مجموعات من بيوت الشعر السوداء المتناثرة في السهول والتلال التي تسور محيط المدينة النامية حركة استقرار متسارعة وتسابق بين الشعر والطين والإسمنت عناق أخوي متآلف بين أهل الحاضرة والبادية في ظل قيم أخلاقية راسخة في تشكيل شخصيات المجتمع السعودي والإخاء الديني والإتحاد الوطني أصالة رابطة الدم العربي , في خضم هذا الزخم من حزم التلاحم الإنساني المرهف تجعلك تحمل مشاعر الاحترام للسيد/ بوركهارت حيث زار المنطقة قبل عام 1814م وأعجب بقيم أهلها وعاداتهم وقال عنهم أن المجتمعات البشرية في جزيرة العرب نموذج صادق للإنسانية الرائعة التي بدأت تتلاشى في حياة المجتمعات الغربية .
والسيد/ ثيودور تسوفسكي الأديب العالمي لو زار هذه المنطقة فسوف يجد ضالته في الإنسانية النبيلة التي ظل يبحث عنها في المجتمع الروسي والأوربي فهم يجدون أن الأمير ميشكين والسيدة الكسندرا وإلى الرائع تولستوي أهمس في أذن ذاكرة الأيدلوجية المادية الكثير من أن حاجي مراد الذي سجل تولستوي إعجابه في سلوكه الأخلاقي ما هو إلا إنسان مسلم امتداد لهذه الحضارة التي اكتسحت العالم بأخلاقها وتسامحها , لو كان تولستوي وارتست همنجواي و ماكسيم جوركي و ادجار الن بو على تواصل مع هذه الإنسانية في وطني لربحوا كل جـوائز نوبل بدل من مرة واحده .
لأول مرة في تاريخ الجزيرة العربية يكون هذا التحول النوعي الكبير لنمطية الحياة المعيشية على مستوى الحياة الرعوية فهي تُسجل على أنها أعلى معدل نسبي في مسيرة تاريخ التحول الاجتماعي لبادية جزيرة العرب , من حالة الترحال إلى حالة الاستقرار .
هرع الآباء المتحمسون للحياة الجديدة إلى تسجيل أبنائهم في المدارس وحملوهم إلى المدرسة إما رجالاً أو ركباناً , أحدهم يوصل ابنه على حمار يردفه معه , وكانت الحمير والكلاب هي أكثر حيوانات البدو رفقة معهم حين سكنوا في المدينة لكن بقي حنين دفين في نفوس البدو يتفجر في خلجات ضلوعهم وهم يسمعون كلباً يعوي في آخر الليل أو نهيق حمار , وأحيانا صوت رجلٍ يزف أنغام “الهجيني” يعزف بصوته الشجي قطعة شعرية تتوجد على حياة الترحال وتصور قطعاً من تذكار البادية , هذه المشاعر لها ارتباط وثيق في تكون شخصية الإنسان وهي جزء أصيل منه , فقد ذكر علماء النفس مثل رائد المدرسة الاستيطانية أو السلوكية سيجموند فرويد أن حياة الإنسان خاصة السنين الأولى من حياته لها دور كبير في تشكيل أخلاقه وسلوكه ولها أيضا الدور نفسه في التأثير في بناءه النفسي والعقلي في مستقبل مراحله القادمة .
كثير من البدو تأثر تأثراً كبيراً عندما باع قطيع أبله أو قطيع غنمه واستقر في المدينة , لدرجة أن بعضاً منهم رفض يشهد بيعها وأوكل من ينوبه في بيعها مع تحديد السعر له .
حياة البدو مليئة بالسعادة وراحة البال , فالبدو في طبعهم بسطاء طيبون وعفويون , وعلى درجة عالية من التفاعل الإنساني ومشهورون بارتفاع مؤشرات الروح الاجتماعية في شخصياتهم تعرف ذلك من :-
– حبهم لقدوم الضيوف عليهم وخاصة الغرباء , وهم يشعرون بالملل إذا أبطأ الوقت ولم يأتيهم ضيف .
– يتساءلون بينهم عن الحمل لدى النساء ويتباشرون حين يسمعون أن فلانه زوجة فلان حامل فهم يفرحون له كما يفرحون لأنفسهم .
– إذا نفق قطيع أحدهم فهم يتبرعون من ماشيتهم له .
– البر بالوالدين كان من الأعمال المشهورة عنهم والبدوي شديد الاحترام والحنو على والديه , والتاريخ الشفهي للبدو مليء بهذه القصص منها :-
كان أحد البدو شديد البر بأبيه لدرجة أنه كان إذا ذهب للتبول يذهب معه ويضع كفيه فوق الرمل الحار حتى لا يلمس شيئا من الرمضاء الحارة .
أحدهم كان يصحبه والده وهو كبير في السن في المرعى بعيداً عن أهله فقام والده يضع يده على أحد النوق ويتلمس جيدها عدة مرات , وكانت من أنفس النوق فأسرع الابن وسل خنجره ونحرها بصوره مفاجأة لأبيه ظاناً أن والده اشتهى لحمها فحزن الأب لهذا الفعل المتهور من ابنه , فقال الابن ظننت أنك اشتهيت اللحم , فوبخه والده على طريقة الغزل الثنائي الحميم بين فخر الأب وافتداء الابن , فالأب سُـرَّ فيها بداخله وتذوق طعم حلاوة البر في ابنه والابن كذاك فقد استقبل كلمات عتاب ابيه كأعذب من قطرات المطر في ليلة صيف حارة .


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com