العائلات الافتراضية


العائلات الافتراضية



يعتبر الانفتاح العلمي والتطور التقني والتكنولوجي والتسارع الرقمي الرهيب من أهم سمات هذا العصر، الذي جاءت من أهم نتائجة الزيادة المهولة في استخدام الأجهزة الذكية التي سمحت بالتواصل بين جميع شرائح المجتمعات المختلفة رغم المسافات المتباعدة بينهم ، خاصة لدى الاطفال والمراهقين الأمر الذي أدى إلى رصد العديد من المشكلات التي بدأت تطفو على السطح ، والتي أصبحت من ضمن التحديات التي يواجهها الأباء خاصة مع سهولة تكوين العائلات الافتراضية داخل المجال الرقمي الأمر الذي يجعل الطفل أو المراهق عرضة لمشكلات أمنية ونفسية وإجتماعية يتحتم على ولي الأمر مراجعة طريقة تعاملة مع أبناءه وأسرته بما يحقق الأمن النفسي والاجتماعي للاسرة كاملة .

إن الواقع المشاهد في الفترة الحالية في مجتمعاتنا الخليجية خاصة يعطي مؤشرات عالية عن انتشار استخدام مواقع التواصل الاجتماعي من قبل الأطفال من عمر 9سنوات فأكثر، بينما تشير الدراسات العلمية مثل دراسة Aretz (2016) أن مستخدمي شبكات التواصل في الفترة العمرية من 18 إلى 22 عام، والبالغين بعمر 30 إلى 50 عام هم الأكثر عرضة لتكوين العائلات الافتراضية واستخداما خاصة بين الذكور أكثر من الاناث، كما تشير بعض الدراسات أن النساء الأكثر استقراراً هن أكثر مقاومة لتكوين تلك العائلات الافتراضية خصوصاً في سن الرشد. ولا يوجد محددات لتكوين العائلات الافتراضية من سمات شخصية أو عمر معين إذ أن الأفراد ذوي الخبرات والتجارب المتشابهة هم الأكثر احتمالاً لتكوين هذه العائلات .

يمكن تعريف العائلات الافتراضية بأنها العلاقة الناشئة بين فردين او أكثر غريبين من نفس العمر أو من مراحل عمرية مختلفة تتسهم بانها علاقة بادئة بالصداقة بينهم ، والتي قد تنشأ بسبب الافتقار إلى التعاطف والعلاقات الإنسانية والرومانسية في البيئة الحقيقية او يمكن تعريفها بأنها علاقات الواقع الافتراضي التي تتسم بالثقة مما يسمح لأحد الطرفين بالتنفيس عن المحتوى المكبوت داخله والذي لا يستطيع مواجهته في البيئة الواقعية، بينما يعرفها البعض بأنها أحدى الطريق التي تسمح لنا برؤية أنفسنا بصورة افضل كما أنها قد تساعدنا على نمو الذات الافتراضية التي تسترسل في التعبير عن رغباتها الحقيقية دون قيود. ويمكن اعتبارها محيط موقفي يجمع بين المساحة المحتملة بين الواقع والخيال ويمكن تقاسم الأسرار فيها بين طرفي الاتصال بسرعة.

استكمالا للحديث عن العائلات الفتراضية هناك رسالة يجب أن تصل إلى أولياء الأمور من باب الوعي والتعرف على الدور المنوط بهم حيال العائلات الافتراضية .

إن الأباء لا بد أن يعرفوا بأن مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي من الاطفال والمرهقين يفضلون التواصل مع الغرباء حفاظاً على الأمن النفسي لهم، وغالباً ما يبدأ التفاعل بتحديد أرضية مشتركة مبدئياً، كمجال معين أو نشاط معين أو حتى لعبة ترفيهية محددة ، خاصة أن معظمهم تفصلهم المسافات الجغرافية. ثم يتم التواصل عن طريق المراسلة الفورية عن طريق الاتصال العشوائي والتحدث المطول مع أي شخص. ويفضل الأشخاص إقامة علاقات افتراضية كالصداقات مع الذين لا يعرفونهم بهدف السعي وراء حل مشكلات فعلية كائنة لديهم وذلك للتخلص من الحمل الانفعالي الذي قد يطرأ عليهم مستقبلاً حيال عدم الرغبة في استكمال التفاعل مع هذا الغريب .

كما أنه من أبرز المشكلات التي قد نواجهها أثناء تكوين العائلات الافتراضية وخاصة لدى الاطفال والمراهقين هي التفاعلات المثالية والتي تتصف بالتجمل والمثالية الزائفة التي تتم خلال شبكات التواصل الاجتماعي مما يجعلهابيئة مشجعة لزيادة التواصل الاجتماعي وتدفعهم للاستمرار في هذه العلاقات والادمان عليها من جهه ، ومن جهة أخرى تؤدي إلى تكوين وبناء( ذات) افتراضية متضخمة ( أي ذات غير واقعية) بسبب هذه التفاعلات .

هذا بخلاف إدراك تورط المراهقين في بعضالسلوكيات غير المرغوبة فإن (القلق من الغرباء) يقل بالقدر الذي يجعل الطفل أو المراهق يجد نفسه منجذباً ومتشجعا للتنفيس عن انفعالاته للغرباء مما يجعله اكثر عرضة للمشكلات سواء النفسية كالابتزاز والاستدراج العاطفي أو الاجتماعية أو حتى الأمنية . علاوة على عدم وجود شعور بالأمان وراحة البال في الحياة الواقعية يجعل الفرد يتجه للغرباء عبر شبكات التواصل بتلك الصورة التي يعمل تكرارها على كسر الحواجز أمام المزيد من التواصل المباشر بينطرفي الاتصال الجدد .

وتعمل الفجوة بين الأباء والأبناء في الغالب إلى عزوف الاباء عن مناقشة أزمات أبنائهم مما يجعل مثل هذه البرامج مجال للبحث عن حلول ممكنه لها .

كما أن العلاقات الأسرية ومشكلاتها وكذلك الشعور بالوحدة النفسية والتي يمر بها الفرد والتفاعل اليوميالمبتور بين أفراد العائلة تعتبر من أبرز الاسباب للاتجاه نحو مواقع التواصل الاجتماعي والإدمان عليها.

لذا يجب أن يراعي الأباء العلاقات الدافئة مع أبنائهم والتعاطف مع مشكلاتهم من خلال خلق الأجواء الهادفة والبناءة وكذلك بناء الألفة والصداقة معهم والعمل معا على تحقيق النمو العقلي والنفسي والانفعالي المتوازن ومشاركة الأبناء في تفاعلاتهم الالكترونية إن أردوا ذلك وإعطائهم قيمتهم والثقة بهم ، والحرص على ألا يصل لهم إحساس بأنهم مراقبون ولا تثقوا بقدراتهم .

يمكن تصنيف الدوافع لتكوين العائلات الافتراضية إلى قسمين هي العوامل النفسية الداخلية الأولية intra-psychic (قضاء وقت الفراغ، الحاجة للأمن النفسي، الثقة بالنفس، السيطرة )، والاحتياجات بين نفسية inter-psychic وتشير إلى حاجته المكبوتة للتفاعل مثل الاتصال، والمغازلة، والعلاقات العاطفية .

إن ما يمكن أن يجده مستخدمي العائلة الافتراضية من سمات في هذا الفضاء الرحب هو على سبيل المثال: الإفصاح عن الذات Self-disclosure والذي يعبر عن فيض المعلومات الصريحة التي يرويها الفرد عن ذاته للآخر وتعتبر الاناث أكثر افصاحاً عن اسرارهن من الذكور، وكذلك ما يسمى المصداقية validation وتشير إلى تزايد رواية التفاصيل وإظهار الاجلال والاحترام له وتقدير خصوصيتة وعدم الدخول فيها في البدايات، ومن ثم يحدث الشعور بالارتياح بسبب عدم السعي وراء معلومات لم يعلن عنها الفرد شخصياً ويتصف بهذه السمة الاناث عن الذكور. ومنها ايضا الرفقة companionship وتشير إلى قضاء مزيد من الوقت طواعية مع الشريك الافتراضي، وقد يندفع الاناث لافتراض توقعات ايجابية عن الشريك الافتراضي في الأزمات العصيبة). وأخيرا يأتي ما يمسى بالدعم الفعال Instrumental support والذي تبرز في المثالية في حل الازمات وتوفير التغذية الراجعة المفتقده عملياً .

لقد حاولت في هذه السلسلة من مقالات حول العائلات الافتراضية من منظور علم النفس السبراني أن أُسلط الضوء على مفهموم العائلات الافتراضية ودورنا كأباء حيال ذلك وكذلك طرح وجهة نظر علم النفس حول الدوافع النفسية الكامنة وراء تكوينها، كما أوجه إلى الحاجة الملحة والفعلية للعديد من الدراسات العلمية والبرامج التوعوية والتدريبية للأسرة والمجتمع حول المشكلات التي تطرأ من خلال كثرة وادمان استخدام العائلات الافتراضية سواء على مستوى الفرد أوالأسرة أو المجتمع كما أؤكد على أهمية زيادة وعي المجتمع بالمشكلة ثم العمل والتشارك في إيجاد الحلول الممكنة والقابلة للتطبيق.

وفي الختام أود أن أُشير إلى أننا بأمسّ الحاجة لإعادة النظر في طريقة تعاملنا مع اطفالنا وشبابنا ذلك أنهم الآن أكثر وعيًا منا بهذه البرامج وأكثر انسجاما معها الأمر الذي يزيد من مسؤوليتنا التربوية وتعاملاتنا الأسرية والاجتماعية.


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com