نصائح فرنسية: لا تتردّدوا في تبنّي النظام المالي الإسلامي


نصائح فرنسية: لا تتردّدوا في تبنّي النظام المالي الإسلامي



باريس: د.محمد الغمقي
بات الفرنسيون ـ والغربيون عموماً ـ أكثر إدراكاً أن الأزمة المالية الحالية ليست عابرة، كما يبدو من تصريحات بعض الخبراء والسياسيين الذين يحاولون طمأنة الرأي العام، واعتبار المشكلة القائمة مؤقتة ويمكن السيطرة عليها.. وقد بدأت أصوات غربية تعلو مطالبةً بحلول جذرية؛ فالكل يعلم أن إدخال بعض الترميمات والتحسينات على النظام المالي الحالي ليس سوى مجرد مسكّنات، لأن المرض عميق ويحتاج إلى إصلاحات جذرية!
وهنا ارتفعت بعض الأصوات منادية بالبحث عن حلول جادّة حتى لا تتكرّر أزمة عام 1929م، التي كانت أحد أسباب توتّر الأوضاع الاقتصادية، وتهيئة الأجواء لاندلاع حرب كبرى بعد عقد من الزمن، أتت على الأخضر واليابس في أوروبا والبلاد المجاورة لها.

لماذا لا نجرّب «الإسلامي»؟

في هذا السياق، جاءت إشارات واضحة من خبراء وإعلاميين لتبنّي النظام المالي الإسلامي. فقد كتبت مجلة «شالانج»، في عددها الصادر في 11 سبتمبر الماضي ما يلي: «لو أن القائمين على مصارفنا، الحريصين على تحقيق أرباح على موارد مالية، احترموا الشريعة الإسلامية ولو قليلاً، ما كنا وصلنا إلى هذا الوضع.. إن القائمين على مصارف إسلامية فقط لا يساومون في مبدأ مقدّس هو (المال لا يُنتج مالاً)، وهذا يعني أن المال لا يُستخدم إلا لتمويل الاقتصاد الحقيقي».
أما «رولاند لاسكين»؛ رئيس تحرير أسبوعية «لوجورنال دي فينانس» (صحيفة المالية)، فقد كتب مقالاً يوم 25 سبتمبر، بعنوان «هل وول ستريت (شارع المال في نيويورك) جاهز لتبنّي مبادئ الشريعة؟ وجاء في مقاله: «لو أن مسؤولينا في الشأن المالي يريدون فعلاً الحدّ من الاحتكار، فليس هناك أسهل من ذلك.. يكفي تطبيق مبادئ الشريعة الموضوعة منذ سبعمائة سنة خلت».
وأضاف: «الوسيلة الوحيدة للثراء هي المساهمة في تنمية مؤسّسة، والحصول على نتائج هذا التطوير بالمشاركة في رأس المال.. إنها مبادئ بسيطة ومعقولة؛ انتظر تطبيقَهَا منذ أمد بعيد مالكو الأسهم في البورصات، وأصحاب عقود التأمين على الحياة».
وتابع: «إن المشكلة أن مبادئ التعامل هذه لا تتفق مع التقليد الغربي، ولا مع القناعات الدينية.. ولكي يتحرك النظام برمّته، يجب على الجميع التكيّف معه في الوقت ذاته».
وأوضح «لاسكين» قائلاً: «في عام 1968م، كان الطلبة يكتبون على الجدران (يجب منع المنع)، أما اليوم فإن هؤلاء الطلبة، الذين يتولى عدد كبير منهم مناصب مهمّة في المؤسّسات والإدارة، قلقون من الأزمة المالية، ويدعون إلى منع حرية التصرّف(!).. فالمطلوب اليوم، تضييق الرقابة على مراكز المبادلات المالية، والحدّ من العمليات الاحتكارية التي ساهمت كثيراً في تعميق الأزمة».

جمود وتردّد!!

وقد أصدر مجلس الشيوخ الفرنسي (الغرفة الثانية في البرلمان)، في بداية شهر أكتوبر الماضي، تقريراً عن لجنته المالية، عبّر فيه عن قلقها لوجود نوع من الجمود على المستوى الوطني في التعامل مع النظام المالي الإسلامي.
وقال التقرير: «إن الوضع الفرنسي (غريب)، فهناك جمود وتردّد في الوقت الحالي، في حين أن تنمية النظام المالي الإسلامي لا يعترضها أي عائق كبير». وأكّد التقرير مزايا هذا النظام، من حيث «قدرته على الدمج الواسع» لشرائح الأجيال الناشئة من أبناء المهاجرين في المجتمع الفرنسي.
ورغم تخوّف البعض من ردّ الفعل العكسي؛ أي تكريس حالة من الانغلاق على الانتماء العرقي والثقافي، إلا أن التقرير اعتبر أن حالة الانتظار لا تفيد، وأن إدماج النظام المالي الإسلامي لا يتطلب تغييراًً جذرياً للقانون الوضعي.. كما أشار التقرير إلى أن وزيرة الاقتصاد؛ «كريستين لاغارد»، وعدت بالنظر في مسألة الحدّ من الإشكالات القانونية والضريبية التي تحتاج إلى إصلاحات بسيطة لا تدخل بالضرورة في المجال التشريعي.

اهتمام سابق

والواقع أن الاهتمام بالنظام المالي الإسلامي في فرنسا لا يعود إلى الأزمة المالية الحالية، وإنما هو سابق لها، فقد أصدر مجلس الشيوخ الفرنسي تقريراً عام 2007م، عنوانه «العصر الذهبي الجديد للمصادر المالية المستقلة (ذات السيادة) في الشرق الأوسط»؛ خُصِّص جزء منه للحديث عن النظام المالي الإسلامي.
كما عقد مجلس الشيوخ ندوة لمناقشة النظام المالي الإسلامي، وقدّم «جان أرتوي» رئيس اللجنة المالية بالمجلس لها بكلمة جاء فيها: «إن النظام المالي الإسلامي هدفه تطوير خدمات بنكية ومالية موافقة لتشريعات القانون القرآني.. وإن اللجنة المالية لمجلس الشيوخ الفرنسي ترغب في تهيئة الفرصة والإجراءات العملية لدخول فرنسا في هذه السوق المتنامية بسرعة».
وبعد أن كان هذا النظام غير معروف على مستوى النظام المالي العالمي، فإنه يشهد اليوم تطوراً مطرداً ينظر إلى السيولة في عدد من البلاد الإسلامية، وإلى ارتفاع الطلب بشأن المعاملات المالية الموافقة للشريعة.
ويجد هذا النمو اهتماماً كبيراً من جانب أوروبا؛ حيث تتساءل دول عدة عن كيفية إدماج هذه المالية البديلة إلى جانب الأنشطة المتعارف عليها. وتُعَدُّ بريطانيا في الطليعة من هذه الناحية منذ عام 2004م، باقتراحها خدمات مناسبة لمسلميها، وجعْل «سيتي» (المركز المالي والتجاري المشهور في قلب العاصمة «لندن») الساحة المرجعية الأوروبية للتعامل المالي على الطريقة الإسلامية.

مناقشات متعدّدة

وقد تناولت الندوة محوريْن، الأول: يتعلق بـ«رهانات إدماج المعاملات المالية الإسلامية في النظام المالي العام بالنسبة لفرنسا»، وشارك فيه عدد من الخبراء، من بينهم: «زبير بن تاردييت» مدير مؤسّسة «إسلا ـ إنفازت» (الاستثمار الإسلامي)، و«مايا بورغدة» الأستاذة الجامعية والخبيرة القانونية في مؤسّسة المصرف الوطني الفرنسي، و«أنور حسّون» نائب رئيس مؤسّسة «موديس»، و«جون فرانسوا بونس» مدير العلاقات الأوروبية والدولية بالفيدرالية المصرفية الفرنسية.
وناقشوا كيفية تطوير المعاملات الإسلامية وإدماجها في النظام المالي العالمي.. ومن القضايا التي تمّت مناقشتها في هذا المحور أيضاً مدى نشاط وحركية «الآلة» المالية الفرنسية داخل هذه السوق المتواجدة أساساً في الشرق الأوسط وجنوب شرقي آسيا، كما نوقشت الفرص المتاحة لفرنسا على الصعيد الوطني لتطوير الخدمات المطابقة للشريعة الإسلامية.
أما المحور الثاني: فقد تناول «الإجراءات المطلوبة والضرورية على المستوى التشريعي والقانوني لتطوّر المعاملات المالية الإسلامية بفرنسا».. ومن بين المشاركين في هذا المحور «أرنو دي براسّون» الأمين العام لشركة «أوروبلاس»، و«تياري فرانك» رئيس مصلحة تمويل الاقتصاد للإدارة العامة للخزينة والسياسة الاقتصادية، و«جيل فايسات» أمين لجنة مؤسّسات القروض والاستثمار.
وناقش هؤلاء المشاركون مواضع «الاحتكاك» على المستوى القانوني والضريبي (العقبات) التي من شأنها إعاقة إدماج النظام المالي الإسلامي في فرنسا؛ سواء من حيث إقامة مصارف إسلامية على التراب الفرنسي، أو من حيث الغطاء القانوني والضريبي للخدمات المطابقة للشريعة الإسلامية، أو من حيث إصدار الصكوك بالمصطلح الإسلامي.. كما ناقش المشاركون في هذا المحور التجربة البريطانية والدروس التي يمكن استخلاصها منها، ومواقف ورؤى المختصين والسلطات العامة في فرنسا في موضوع إدماج المعاملات الإسلامية.
ويظهر من خلال تنظيم هذه الندوة وجود رغبة ملحّة لدى شريحة من الطبقة السياسية الفرنسية في إقناع سلطات القرار والمعنيين بالملف المالي والحركة الاقتصادية بضرورة الانفتاح على النظام المالي الإسلامي والإسراع بقبول المعاملات المالية على الطريقة الإسلامية، حتى لا تتأخر فرنسا في تحقيق مكاسب وأرباح كبيرة وضمان حصتها من السوق الضخمة الواعدة في هذا المجال، وذلك على المستويين؛ الداخلي والخارجي.
فعلى المستوى الخارجي، هناك منافسة قوية أوروبية وآسيوية، خاصة من بريطانيا وبلدان أوروبية أخرى مثل إيطاليا وسويسرا على سوق المعاملات الإسلامية.. ويُقدَّر حجم هذه المبادلات بـ«700 مليار دولار».

مسلمو فرنسا.. الكمّ والكيْف

أما على المستوى الداخلي، فلعل من أكبر الحوافز لدى المقتنعين بهذا المسار وجود جالية مسلمة ضخمة في فرنسا، تُعَدُّ الجالية الأولى من حيث عددها على الصعيد الأوروبي (أكثر من ستة ملايين مسلم من مجموع 65 مليون نسمة)، والأكبر من حيث حجم المعاملات المالية والقدرة الاستثمارية.
وتكفي الإشارة إلى مسألة اللحم «الحلال» وارتفاع الطلب عليه، إلى جانب العدد المرتفع من رؤوس الماشية التي يتمّ شراؤها في عيد الأضحى، بالإضافة إلى المواد الغذائية التي تُستهلك في شهر رمضان المبارك، فهناك خبراء يتابعون تطوّر عملية الاستهلاك لدى المسلمين بما يمثّل سوقاً مربحة.
من ناحية أخرى، وعلى المستوى المالي والاستثماري، فإن المسلمين في فرنسا يُعدُّون مصدراً واسعاً لتحقيق أرباح كبيرة، ذلك أنه بقدر انتشار الوعي في صفوف المسلمين ورغبتهم في تطوير أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، ووجُود أجيال جديدة تَعُدُّ نفسها جزءاً من المجتمعات الأوروبية، ولها حقوق المواطنة كغيرها من المواطنين، بقدر ما ترتفع نسبة الحركة الاقتصادية والاستثمارية لدى المسلمين في أوروبا والغرب عموماً.
وهو ما يفسّر ظاهرة إنشاء المؤسّسات والشركات التجارية الصغيرة والمتوسطة.. فيومياً تُولد مشاريع تجارية يقوم عليها مسلمون بأساليب عصرية، وهذه المشاريع الاستثمارية تحتاج دعماً مالياً عن طريق المصارف البنكية، لكن الطلب يتزايد على المعاملات غير الربوية في صفوف المسلمين المقيمين في أوروبا.

كسر الحاجز النفسي

ولهذا، كان لزاماً على المسؤولين عن الدورة الاقتصادية والمعاملات المالية توفير المعاملات طبقاً للشريعة الإسلامية، لتحقيق الثقة المطلوبة لانخراط المسلمين بأريحية في الدورة الاقتصادية في العالم الغربي.
وفي هذا السياق، قامت البنوك الفرنسية الكبرى بإنشاء أقسام للمالية الإسلامية؛ موجّهة بالدرجة الأولى إلى كبار المستثمرين في البلاد العربية والإسلامية.. ولم تتوجّه بعدُ إلى عامّة المسلمين، فمازالت تتردّد في اقتحام هذا المجال على المستوى المفتوح، والسبب في ذلك يرجع إلى العقلية العلمانية السائدة في فرنسا.
ولذلك تحاول الجهات المختصة كسر هذا الحاجز النفسي في أسرع وقت من أجل عدم إضاعة الفرصة بالتردّد في اقتحام هذه السوق، فقد يُضطر المسلمون في فرنسا إلى التوجّه إلى مؤسّسات بنكية تعتمد المعاملات الإسلامية تُقام في مناطق مختلفة من القارّة الأوروبية.>


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com