الدرس الصيني


الدرس الصيني



الدرس الصيني

احتلت البرتغال ماكاو فأنشأت عليها مستعمرتها الغربية واقتطعت بريطانيا هونج كونج بعد ذلك بقرنين ثم جاءت الولايات المتحدة إبان الثورة الشيوعية في الصين فعزلت تايوان عن وطنها وبنت فيها المصالح والمصانع وسنّت لأهلها طريقة حكم وأسلوب حياة مختلف عما ألفوه لقرون طويلة.
غلبت الصين الحكمة وصبرت على تقطيع أوصالها فلم تثر ولم تغامر ولم تدخل حرباً لم تحسن الاستعداد لها ولا تعرف نتيجتها بل انكفأت على ذاتها في مراجعة طويلة لمثالب نظامها ولمواقع ضعفها التي تسلل منها الأعداء ، أشعلت بعد ذلك ثورتها الثقافية والاقتصادية التي شملت كل مناحي الحياة حتى غيرت أسس ثقافتها الاجتماعية وطريقة فهمها وتقييمها للأحداث وتعاملها مع معطيات العصر وتحولت على مهل وعلى مدى عقود من مجتمعات مزارعين بسطاء ضيقي الأفق ومحدودي المعرفة ومن شعب منغلقٍ على نفسه إلى أمةٍ منتجة فعالة مسخرةٍ للمعرفة ومصدرةٍ لمنتجاتها ولمعطياتها المادية والفكرية .
هكذا بدأت الأمة الصينية في الظهور حتى بهرت أنظار العالم بقوة نموها ومتانة ركائزها الاقتصادية والاجتماعية فتهافتت على أسواقها الدول والشركات وانهالت عليها الاستثمارات وخطب الجميع ودها بين راغبٍ في شراكتها وراهب من قطيعتها وانتقامها .
كانت الصين تبني في تلك الأثناء قوتها العسكرية التي تعاظمت مع تراكم الخبرة ومع القدرة المادية والبشرية ، صنعت سلاحها بأيدي أبنائها وطورت زراعتها الحديثة واستثمرت في نسخ الأفكار والمخترعات وفي البحث والتطوير حتى سيطرت منتجاتها على الأسواق فسحبت البساط من تحت أقدام منافسيها .
تخلت البرتغال عمّا كانت تدّعيه حقوقها في ماكاو دون جدل حين أدركت أنها لن تستطيع مواجهة الصين وانسحبت بريطانيا عندما حانت ساعة الحقيقية وخافت أن تلوى يدها فسلمت هونج كونج واحتفلت بالخلاص وكذا ستفعل أمريكا عاجلاً أو آجلا بضغط من المصالح الاقتصادية أو بتهديد من وسائل وأوراق كثيرة وهامة باتت تملكها الصين وتحسن التصرف بها .
لئن عادت ممتلكات الصين متأخرة فذلك خيرٌ من ألاّ تعود وخير بالتأكيد من دخولها في حروب غير متكافئة كانت ستنتهي حتماً بتقسيمها واستباحة حماها وتقاسم مواردها والتحكم بمصيرها وتوجيه سياساتها ، فيا للحكمة الصينية .!
أين العرب من التجربة الصينية حين اقتحموا حروبهم دون تخطيط ولا إعداد وحين وقعوا في الشراك التي نصبت لهم بدوافع العواطف الآنيّة والنخوة العربية متفرقين متشاحنين يخافون من الصديق في خواصرهم أكثر من العدو في نحورهم ، يحاربون بسلاح مستورد وطعام مستورد وبأفكار وعقائد مستوردٌ أغلبها من أعدائهم .
رهنت مقدرات الأمة لحروب خاسرة ، شُوهت نظرياتُ الإصلاح وعطلت عجلة التنمية وأجلت مشاريع النهوض بحجة ألاّ صوت يعلو على صوت المعركة .
ماذا لو انكفأوا على ذاتهم حين أفاقوا من السبات وخلعوا عنهم ربقة الاستعمار ماذا لو تجنبوا الحرب بأي ثمن ووحدوا الأمة التي تجمعها وشائج الدين والدم واللغة والمصير المشترك وتفرقها الحدود والشعارات الوهمية وركزوا جهدهم على التنمية البشرية والاقتصادية والسياسية حتى إذا اكتمل بناؤهم وتعاظمت قواهم هابهم أعداؤهم وتخلوا عن حقوقهم وأراضيهم فوجدوا القدس في مكانها لم تبرح كما وجدها صلاح الدين ، أما كان ذلك خير وأجدى من سيل الدماء والدموع ومن الذل والحرج الذي تتعرض له الأمة كل يوم .

سعيد بن شهاب العنزي


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com