وصية الرجل .. قالط


وصية الرجل .. قالط



[B][SIZE=4]

[ALIGN=CENTER][COLOR=darkblue]وصية الرجل .. قالط![/COLOR][/ALIGN]

الجو كان بارداً بل زمهريراً وقارس البرودة يدخل الجسم والعظم ويهدد أطراف الجسم الأخرى بالعطب، حينها قررت أن أجلب الحطب وأعواد الرمث اليابسة والجلة المتناثرة هنا وهناك، أشعلت النار لأشحذ منها الدفء متدثراً بفروه رعيانيه أقصر مني وأصغر، كان ذلك في شتاء العام المنصرم أذكر ذلك جيداً بالوقت وباللحظة، ستة أيام غاية في البرودة وغاية في التعب وغاية في الركض وراء اصطياد الطيور التي لا أتقن أسماءها ولا كيف تعيش أو تستقر ولا حتى كيف تهاجر كجماعات أو فرادى ازددت في تلك الأيام الخوالي خبرة في شؤون الحياة غيرتني رأساً على عقب، كان التخييم في الصحراء مليء بالمفاجآت، وأردت أن أنتهز هذه الفرصة وأغامر على طريقة (الرحالة) الكبار، لقد بذلت ما في وسعي لأعرف كل شيء وأتفحص كل شيء وأدون المعلومة عن كل شيء وأسأل الرفاق الكبار في السن عن كل شيء حتى أن أحدهم غضب مني ونهرني بأدب بأن أتوقف عن كثرة الأسئلة، لكنني أخبرته بأني أملك حب الاطلاع ولدي هواية المعرفة حتى عن صغائر الأشياء وهذا هو ديدني وهذا هو شأني، عندها ربت على كتفي بحنو وتأسف، الوقت ليل والبرد يزداد قوة وزخات المطر تطرق بقوة سقف الخيمة المتهالك أصلاً حتى أصبح الوضع في الخيمة شيئاً لا يطاق لذا قررت الرحيل في حالة من اللاوعي المطبق ودون أن أفكر حينها بأي شيء، في غمرة الليل العتيم والبرد القارس سرت ماشياً ثلاثة أيام بلياليها كي أصل لبيتي الطيني العتيق في تلك الهجرة النائية في إحدى تخوم الشمال البعيدة، كان في نيتي البقاء مع رفقاء الرحلة لكنني لم أتحمل تصرفاتهم وأوامرهم الغليظة المجحفة بحقي كوني أصغر سناً وقامة منهم، كان المطر يهطل بقوة ويلسعني كالسياط مختبئاً تارة تحت الشجيرات الصغيرة وتحت الصخور الحجرية تارة أخرى ولحسن حظي كنت أرتدي فروتي و(مشمع) سميك وشماغ بالي لففته على وجهي وأدخلت طرفيه تحت عقالي ليحمي رأسي كله من البرد، وبينما أنا منكب في مسيري كنت أردد بعض قصائد الهجيني بصوت خافت لتساعدني على قطع الفيافي ولأسلي روحي المتعبة لأن القصائد تجعل من الأشياء أحياناً واقعاً حياً وملموساً وشيئاً مسانداً لاجتياز المصاعب، عشت ساعات غاية في الصعوبة خلال رحلة العودة أزعجني فيها عواء الذئاب الجائعة وظلمة الليل البهيم ووحدة النفس وحزن المصير ومفاجآت الآتي، بعد أن وصلت بيتي في حالة إعياء شديد وهزال بائن تنهدت طويلاً وحاولت تعديل هندامي كي أستقبل زوجتي وطفلتي الصغيرة بابتسامه عريضة لكنها تنم عن وجع في النفس ووجع في الجسد في آن واحد لكنني حاولت أن أضمر الاعياء وأخفي التعب وأكابر، مرضت بعدها شهوراً طويلة كنت أتداوى خلالها من الأعشاب البرية المتنوعة منقوعة بالماء أحياناً وك (سفوف) أحياناً أخرى على يد عجوز سمراء طاعنة في السن يلقبونها بال (أم قعود الفهيمة) حتى شفيت وعادت لي عافيتي من جديد بعد رحلة مريرة وطويلة مع المرض والعلاج والكي، بعدها رحلت إلى العاصمة لأعمل عسكرياً في أحد القطاعات العسكرية برتبة جندي ولأكمل تحصيلي العلمي ليلاً، ثابرت طويلاً وعانيت كثيراً وقاسيت كثيراً حتى حصلت على درجه البكالوريوس ورتبة وكيل رقيب ثم أصبت بمرض الفشل الكلوي التام المزمن الذي أعاقني عن تحقيق طموحي الكبير بتحقيق درجه الدكتوراه هذا ما قاله لي الرجل المكافح الصبور (قالط) وهو يقص علي بعضاً من ذكرياته الموغلة في السفر والتعب والمثابرة والهمة الكبيرة والمرض اللعين ويوصيني في الأخير وهو على فراش المرض بجسد رقيق يشبه العود اليابس بوجوب توعية المجتمع بأهمية مساعدة مرضى الكلى وتثقيف أفراده بالتبرع بالأعضاء وكيف أنه يعمل على غسل كليتيه ثلاث مرات في الأسبوع يعاني خلال الغسيل أشد المعاناة والألم والخطورة والغياب عن الوعي في بعض الأحيان، قال لي بمرارة وهو يبل شفتيه الذابلتين بلسانه وبصعوبة بالغة على الإعلاميين وأرباب القلم والفنانين أن يفعلوا دورهم في التركيز على هذا المرض وينشروا ثقافة الوعي حيال هذا الأمر المهم وأن لا يتركوا مرضى الكلى وحيدون يعانون ما يعانون دون رجع صدى لأنينهم وأن على وزارة الصحة أيضاً أن تكثف نشراتها الإعلامية التوعوية في كل وقت وفي كل حين دالة ومرشدة عن كيفية نشأة المرض وتطوره وخطورته على الفرد وصحته العامة وطرق وسبل الوقاية منه لتفادي إمكانية الوقوع في شركة وحبائله المتعبة، وأن على وزارة الصحة وضع خطة متكاملة خاصة بمرضى الكلى وذلك بالتنسيق مع محافظي المناطق وتهيئة جميع مستلزمات التنفيذ بالتنسيق مع الجهات الحكومية الأخرى مع تزويد جميع المحافظات والقرى والهجر بآلات الغسيل الكلوية الحديثة والمتطورة وعدم تخصيصها للمدن فقط حتى يتمكن كل أفراد المجتمع الذين أصيبوا بهذا الداء وهم كثيرون من الاستفادة منها من غير عناء سفر أو مشقة ترحال، قال لي وقال لي الكثير من المشكلات الساخنة في حياته التي التفت من حوله وصهرته هماً ومعاناة على شكل أحداث وتقاطعات وفق شبكة من العلاقات الحياتية التي تشبه رحى الطاحونة التي تظل تدور وتدور دون أن تتعب، وبعدها بعشره أيام جاءني نبأ وفاته وأن علي الحضور بكيت كثيراً واعتراني الحزن كثيراً وتجمد جسدي وانحبست كلماتي ورحت أتأمل وجه (قالط) الذي أحببته، حملت نفسي خلف موكب جنازته وأديت مراسم الدفن والعزاء ثم عدت أدراجي أسير الذكريات جريح المشاعر، ثم أعلنت على (قالط) الحزن وأبيت إلا أن أكتب عن مرضه ومعاناة ومناشدته لي بأن أنبه عن مرضى الكلى ومعاناة من ابتلوا به وكيف يحول هذا المرض جسد المريض إلا أن يصبح رقيقاً كعود نبتة (شيح) أو (قيصوم) أو ذابلاً كنبتة (خزامى) أضناها العطش.

[COLOR=blue]رمضان جريدي العنزي
كاتب صحفي بجريدة الجزيرة[/COLOR][/SIZE][/B]


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com