غازي القصيبي: ما الذي كان يريده “وزير الأمل” قبل الموت؟


غازي القصيبي: ما الذي كان يريده “وزير الأمل” قبل الموت؟



في إحدى المكتبات، التي يلجأ إليها سكان العاصمة الرياض لابتياع الكتب الجديدة، الهاربة من مقصات وزارة الإعلام والمجتمع، تستقبلك كتب غازي القصيبي على الطاولة الرئيسة بعدما كانت تباع من تحت الطاولة، وفي السر، تماماً مثل المشروبات الكحولية والحبوب المنشطة، التي يستخدمها سائقو الشاحنات وطلبة الثانوية العامة والساهرون حتى مطلع الفجر.

“لقد أعادت الرياض الاعتبار لأديبها الكبير”، يقول لي فهد الشويعر، وهو محرر لاذع في قسم الفن والمنوعات في صحيفة “الجزيرة”، ونحن نقلب بين يدينا الكتب المتناثرة لفقيد البلاد، ونلاحظ شغف الشبان، ورجال الدين الملتحين، وهم يقبلون على ابتياع عدد كبير من الكتب، وبالكاد يسترق البائع دقائق لتدخين سيجارة ونفث أحلام وأحزان وحنين لوطن بعيد.

أمام هذا الكمّ من الكتب، التي تجاوزت أكثر من خمسين كتاباً، لا بد أننا عرفنا ما الذي كان يتمناه غازي طوال حياته. لم يكن لدى غازي القصيبي أحلامٌ أكبر من أن يتفرغ للكتابة، التي طالما أحبها، وكانت رفيقته طوال نصف قرن، كان فيها رحيق العمر، وعسله، ومّره، وبحاره، وبحوره.

حاول الاستقالة مرات عدة من وزارته الأخيرة، دون جدوى. كان ملكه الذي أحبّه، وعمل إلى جواره، وكان غازي كاتباً لبعض خطبه الشهيرة، يعتقد أن القصيبي لا يزال لديه الكثير مما يمكن أن يقدمه لوطنه.

قال غازي للملك في إحدى محاولات الاستقالة ما مؤداه: “إن الذين كانوا يحبونني طوال عملي في الدولة أصبحوا يكرهونني، والعجائز اللواتي كنت أسمع أنهن يدعون لي، أصبحن يدعون عليّ، وانا في الحقيقة تعبت من ذلك”.

بيد أن الملك عبد الله قال إن لديه الكثير ليعطيه إلى وطنه، و”هنالك الكثير مما يستحق المحاولة”.

كان عبد الله ملكه الأخير، ولم تكن العلاقة سهلة كما يظن البعض، على الأقل في بدايتها، حين كان وزيراً للصحة، قال له الملك، وقد كان وليًا للعهد حينها، بصراحته المعتادة إن صوره أصبحت “تملأ الصحف أكثر من اللازم”، وقال له لاحقاً “إنك متهم بتوظيف أبناء أقربائك في وزارة الكهرباء”، ولكن حين تم تهديده من قبل بعض البعثيين المتحمسين خلال حرب الخليج، أرسل إليه ولي العهد سيارة مصفحة لحمايته، وحين وفّر للدولة مئات الملايين من خلال تفاوضه مع الشركات مباشرة، قال له بإعجاب: “لم لا يعمل الوزراء مثلك يا غازي؟”.

اكتشف الملك مواهب غازي، وجرأته، وقبل ذلك وبعده، نزاهته، والأخيرة مهمة، خصوصًا في ظل المليارات وخطط التنمية، التي طالما أفزعت القصيبي، حتى قال إنه إذا خيّر بين تنمية يشوبها فساد، ولا تنمية، فإنه سيختار الأخيرة.

[CENTER][IMG]http://www.myelaph.com/elaphweb/Resources/images/Politics/2012/2/week1/ghazi.jpg[/IMG][/CENTER]

مشكلته أنه كان سيد التأجيلات. أحياناً كان يظنُّ أنه سيعيشُ إلى الأبد، فثمة آلاف الأفكار، والأوراق، والأماني؛ وفي أحيان أخرى كان يشعر بوطأة العمر، واقتراب الطارق الأخير، الذي ظل يترقبه منذ الأربعين من العمر، وكان يعرف بإحساس الشاعر، وحساسيّة الفنّان، أنه بدأ يدخل في المرحلة الحرجة، ولا مفرّ من التسليم يوماً ما.

[HIGHLIGHT=#1A00FF][COLOR=#F5F5E4]هل قلنا الأربعين؟
[/COLOR][/HIGHLIGHT]
بدأت عقدة العمر مع غازي منذ الأربعين من عمره كما فعل معلمه “الشريف الرضي”، ولم يستفد من صديقنا المتنبي الكبير، الذي لن يفارق شيبه إلا “موجع القلب باكيًا”!. لم يعتقد أنه سوف يكبر يوماً، وحين كبر تفاجأ بذلك. مع العمر ازداد غازي تديّناً، وبدت عليه في أحيان كثيرة مسحة من الكآبة، وقال إن “العمر يعلّم الكثير”، كما ذكر في حديثه مع الصحافي السعودي عبد العزيز قاسم.

بالفعل، علّمه العمر الكثير، وعلّمه الموت أكثر.

علاقته مع الموت لافتة، وتعود إلى بواكير الطفولة، فهنا الأم، التي لم ير حتى طيفها، وبعدها الأب، الذي ظل متماسكاً حتى اللحظات الأخيرة من عمره، ومن ثم تكِرُّ المسبحة، ويغادر الأخوة بسرغة. في أقصوصته الأخيرة “ألزهايمر” يحكي أن الموت بدأ معه منذ الطفولة، حين كان يستلقي على أرض المنزل، ليقنع الآخرين أنه مات.

بعدها توالت أشباح الموت، التي كانت تتراقص أمام ناظريه، وتحت جسده الضخم في اليمن، وأميركا، ولندن، وأخيراً في الرياض، التي أحبها وأكرمته.

آخر أغنياته كانت عن “المغرب المعشوق”، وغنّاها الفنان السعودي عبد المجيد عبد الله. كانت أغنية تنضح بالسعادة، وبدا أن القصيبي عاد إلى شبابه، وتذكّر أجواء “الجنيّة”، وهي روايته الشهيرة عن السحر و”السُحراء”.

يقول عبد المجيد عنها: “أحببت القصيدة من المرّة الأولى حينما سمعتها من الملحن عندما كنت في البحرين، وكان التحدّي أن أقدّم غازي إلى الجيل الجديد بشكل موسيقي أكثر حداثة، وأعتقد أنني نجحت إلى حد ما”.

سياسياً يمكن القول إنه ابن الملكية، وليس ابن النظام. عمل مع ثلاثة ملوك، وهو يعرف أنه يعمل للبلاد والشعب. كان مولعًا بعبد الناصر، وكان عروبي الأحلام، لكنه حين يلبس عباءة المسؤول والمشارك في الحكم، فإنه يشعر بحجم المسؤولية، أن الغرب هو الضمانة، رغم أن ذلك مؤلم لرجل تخيل أنه التقى عبد الناصر بعد خروجه من “شقة الحرية”.

ولا يزال هنالك الكثير عن غازي، وخصوصًا يومياته، التي لا تزال في عهدة ورثته، وقد تكون مادة دسمة لأكثر من كتاب.


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com