الأمير الإنسان


الأمير الإنسان



والله إني كبير صغيركم وحاضر غائبكم، وأنا معكم في السراء والضراء، لا تتعبوا أنفسكم في تنميق الكلام، فأنا في مساعدتكم لا أحتاج إلى أن تجودوا العبارات، صدقوني أنني أشعر بألم من أصابه ألم منكم، وأعيش معكم أفراحكم وأحزانكم، وتأكدوا أن من لا يملك منكم قدرة على إجادة وصف مشكلته لا يتفوق عندي على من يجيدها، لأنني أشعر بضعف العاجز منكم أكثر من شعوري بقوة القوي، وأشارك المهموم همه دون أن يكون للكلام المجود تفوق، أنا والد صغيركم وأخو كبيركم وقوي ضعيفكم، والله ما نمت وأنا قادر على حل مشكلة واحد منكم ولم أحلها، وما تركت قضية تشغل شخصا منكم إلا إذا كنت لا أملك حلها.
كانت هذه أولى العبارات التي سمعتها من سمو أمير منطقة الحدود الشمالية الأمير الوالد عبدالله بن عبدالعزيز بن مساعد آل سعود، وللصدفة فقد كانت تلك المرة الأولى التي دخلت فيها مجلسه، وهو -لحظتها- يرد على أحد الأشخاص الذين دخلوا المجلس يستنجدون لحل مشكلة أصابت أحدهم، وكان أحد هؤلاء القادمين يرفع صوته بالحديث والمديح، ويهم بإنشاد أبيات ظنا منه أن قضيته لا تحل إلا بالشعر، وعلى الرغم من انبهاري، حينها، من عظمة إنسانيته هذا الأمير الجليل فإن ذلك لم يكن مستغربا عندي، لإنني كنت أشغل، قبيلها، منصب رئيس قسم المساجد بأوقاف الحدود الشمالية، وكنت أعرف كم بنى سموه من مساجد باسم والده الأمير عبدالعزيز بن مساعد، وباسمه شخصياً، وهذه من المكرمات التي لم يحدث بها أحد، ولم يتناولها الإعلام، وكان يكره أن يجاهر بها، وفوق ذلك فقد سبق هذا الموقف حادثة مسرحها بيت جاري، وطرفها أحد كبار السن، ممن هم على رأي المثل العربي «مقطوعين من شجرة»، حيث كان هذا المسن يقود حافلة تقل بعض الطلاب والطالبات بأجرة زهيدة، ليحصل على لقمة عيشه، ولحظه السيئ فقد دهس شخصا مات، ساعتها، وطولب بديته مع أنه لا يملك ألفا من المائة ألف ريال التي طولب بها… هذا المسن كان يزور أحد جيراني، ويعطف عليه ذلك الجار وعندما علم بمصابه ذهب إلى الأمير الوالد وشرح له قصته فلم تمض ساعة واحدة حتى أمر له الأمير بمائة ألف ريال، وكلفه سموه بالذهاب إلى ولي الدم وأعطاه المبلغ، وطلب منه متابعة إجراءات إخراج المسن من سجنه، ومع هذا فقد أوصى ذلك الرجل بألا يبوح بما أعطاه وقال له قل: فكه فاعل خير.

الأمير عبدالله من الشخصيات التي لا تملك إلا أن تحبها، أو على الأقل تخرج وأنت معجب بها، وإذا ما أردت الحديث عن مكرماته فإنني أحد من حظي بمواقف سموه الكبيرة، وأذكر أنني كنت قبل أربعة أعوام أدرس في كلية المعلمين في حائل خلال فصل صيفي، كعادة الكليات بالاستعانة بأعضاء زميلاتها، وقد مر بي -وقتها- ظرف شغلني فترة ولتبعات ذلك كتبت في إحدى الليالي، وفي وقت متأخر، قصيدة أناجي فيها سموه وأرسلتها إلى فاكس مكتبه وتضمنت أبيات منها:

ما يكفي انه لا اندفق حبر الأقلام

في ديرة عن ديرتي تبعد شوي

نسيت حاتم في متاهات الأوهام

وذكرت عبدالله وأنا في بلد طي

بصدورنا وقلوبنا حبه وسام

كذا الغلا ولا فلا (يا بعد حي)

وأغلقت جوالي بعدها ظناً أن هناك متسعا من الوقت أتمكن فيه بعد ذلك من شرح ما أردته، وفي صباح ذلك اليوم الذي وصلت فيه القصيدة كلف سموه من يتصل بي لمعرفة الرسالة التي أردت إيصالها، ولكن ذلك الشخص لم يتمكن من محادثتي بسبب إغلاق جوالي، وعندما أبلغ الأمير بذلك قال له سموه : لعل ولدنا عندما سافر إلى حائل لم يترك لأهله مصروفاً واستحى أن يصرح بذلك فخذوا ثلاثين ألف ريال وأعطوها أهله وعندما نعرف القضية إن غير هذه فسنحلها بإذن الله. هذه واحدة من مكرمات لا يريد سموه من أبنائه أن يجهروا بها، وهذا هو عبدالله بن عبدالعزيز بن مساعد آل سعود الذي لا تعلم شماله ما تنفقه يمينه، وهو الذي فتح بابه للصغير والكبير وهو الذي يحتضن أبناءه في كل المواقف، وهو الذي لا يؤاخذ بالزلات، وهو الذي لم يعرف عنه مظلمة قط، ولم يقدم قويا على ضعيف في يوم من الأيام، وهو الذي يقابل الإساءة بالإحسان، وهو.. وهو.. وهو، ولكنه لا يحب أن يحمد بما يفعله، فعبدالله الأمير هو عبدالله الإنسان وهو عبدالله النبيل، وباختصار فإننا نحبه لأننا لا نملك إلا أن نحبه، وإلا عددنا ذلك من العقوق اللئيم تجاه والد فاضل وأمير عادل وإنسان كبير بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان سامية.

*مدير مكتب جريدة «الرياض» في عرعر


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com