ليلة القدر


ليلة القدر



[CENTER]بسم الله الرحمن الرحيم[/CENTER]

قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68] أي يخلق ما يشاء ويختار ما يشاء فيصطفي مما خلق ما شاء على مقتضى حكمته وفضله تبارك وتعالى.

وقوله {ما كان لهم الخيرة} نفي أي: ليس هذا الاختيار إليهم، بل هو إلى الخالق وحده، فكما أنه المنفرد بالخلق فهو المنفرد بالاختيار منه، فليس لأحد أن يخلق ولا أن يختار سواه، فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره، ومحال رضاه، وما يصلح للاختيار مما لا يصلح له، وغيره لا يشاركه في ذلك بوجه.

ولله في ذلك الاختيار والتفضيل التصرف التام لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه فاختار من الملائكة رسلاً ومن الناس واختار منهم أفضلهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وحملة العرش واختار أولي العزم من الرسل واختار من البلاد أفضلها وهي مكة فجعلها مكان بيته المحرم واختار المدينة مهجراً لنبيه صلى الله عليه وسلم واختار بيت المقدس وبارك بما حوله واختار من الأعمال أحسنها وشرعها لعباده ليتقربوا إليه بها واختار من الأزمنة أفضلها ففضل يوم النحر على سائر الأيام وهو يوم الحج الأكبر على الصحيح وفضل عشر ذي الحجة وشهر رمضان والأشهر الحرم ويوم عاشوراء وفضل الله ليلة القدر على سائر الليالي فقال: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ )[الدخان:٢-٣] وقال تعالى (إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر.
)
قال البخاري قال ابن عيينة ما كان في القرآن (ما أدراك) فقد أعلمه وما قال (وما يدريك) فإنه لم يعلمه.اهـ يعني البخاري بإيراد هذه القاعدة التفسيرية أن ليلة القدر مما علَّم اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم.

قال مجاهد بن جبر تلميذ ابن عباس في تفسير قول الله تعالى (خير من ألف شهر) أي عَملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر رواه ابن جرير وروى ابن أبي حاتم في تفسيره عن مجاهد ليلة القدر خير من ألف شهر ليس في تلك الشهور ليلة القدر وهكذا قال قتادة بن دعامة والشافعي وغير واحد وقال عمرو بن قيس الملائي عمل فيها خير من ألف شهر وهذا القول بأنها أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر وهو اختيار ابن جرير قال ابن كثير وهو الصواب لا ما عداه. وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم «رباط ليلة في سبيل الله خير من ألف ليلة فيما سواه من المنازل» رواه أحمد وكما جاء في قاصد الجمعة بهيئة حسنة ونية صالحة أنه يكتب له عمل سنة أجر صيامها وقيامها إلى غير ذلك من المعاني المشابهة لذلك وروى الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال لما حضر رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم« قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم»

وقوله تعالى « تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر » أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ويحيطون بحلق الذكر ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيما له وأما الروح فقد قيل المراد به ههنا جبريل عليه السلام فيكون من باب عطف الخاص على العام وقيل هم ضرب من الملائكة والله أعلم وروى أبو داود الطيالسي في مسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر إنها ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين وإن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى.

وقوله تعالى « من كل أمر » قال مجاهد سلام هي من كل أمر فهي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا أو يعمل فيها أذى وقال قتادة وغيره تقضى فيها الأمور وتقدر الآجال والأرزاق كما قال تعالى (فيها يفرق كل أمر حكيم) وقال الأعمش عن المنهال عن عبد الرحمن بن أبي ليلة في قوله « من كل أمر سلام » قال لا يحدث فيها أمر وقال قتادة وابن زيد في قوله « سلام هي » يعني هي خير كلها ليس فيها شر إلى مطلع الفجر ويؤيد هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال ليلة القدر في العشر البواقي من قامهن ابتغاء حسبتهن فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهي ليلة وتر تسع أو سبع أو خامسة أو ثالثة أو آخر ليلة وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة كأن فيها قمرا ساطعا ساكنة ساجية لابرد فيها ولا حر ولا يحل لكوكب يرمى به حتى يصبح وأن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ» قال ابن كثير: وهذا إسناد حسن وفي المتن غرابة وفي بعض ألفاظه نكارة.اهـ.

وروى الطيالسي عن ابن عباس أنه قال صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر ليلة سمحة طلقة لا حارة ولا باردة وتصبح شمس صبيحتها ضعيفة حمراء وروى ابن أبي عاصم النبيل بإسناده عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إني رأيت ليلة القدر فأنسيتها وهي في العشر الأواخر من لياليها طلقة بلجة لاحارة ولاباردة كأن فيها قمرا لا يخرج شيطانها حتى يضيء فجرها
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه.

قال ابن جرير: أي إنا أنزلنا هذا القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، وهي ليلة الحكم التي يقضي الله فيها قضاء السنة؛ وهو مصدر من قولهم: قدر الله علي هذا الأمر، فهو يقدر قدراً.اهـ.

قال الحافظ ابن حجر : اختلف في المراد بالقدر الذي أضيفت إليه الليلة فقيل : المراد به التعظيم كقوله تعالى : وما قدروا الله حقل قدره والمعنى أنها ذات قدر لنزول القرآن فيها ، أو لما يقع فيها من تنزل الملائكة ، أو لما ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة ، أو أن الذي يحييها يصير ذا قدر . وقيل : القدر هنا التضييق كقوله تعالى : ومن قدر عليه رزقه ومعنى التضييق فيها إخفاؤها عن العلم بتعيينها ، أو لأن الأرض تضيق فيها عن الملائكة . وقيل : القدر هنا بمعنى القدر بفتح الدال الذي هو مؤاخي القضاء ، والمعنى أنه يقدر فيها أحكام تلك السنة لقوله تعالى : فيها يفرق كل أمر حكيم وبه صدر النووي كلامه فقال : قال العلماء : سميت ليلة القدر لما تكتب فيها الملائكة من الأقدار لقوله تعالى : فيها يفرق كل أمر حكيم ورواه عبد الرزاق وغيره من المفسرين بأسانيد صحيحة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم ، وقال التوربشتي : إنما جاء القدر بسكون الدال ، وإن كان الشائع في القدر الذي هو مؤاخي القضاء فتح الدال ليعلم أنه لم يرد به ذلك ، وإنما أريد به تفصيل ما جرى به القضاء وإظهاره وتحديده في تلك السنة لتحصيل ما يلقى إليهم فيها مقدارا بمقدار.اهـ.

ولفضيلتها أمر النبي صلى الله عليه وسلم لتحريها والتماسها فقد روى الشيخان البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر» وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان» رواه البخاري.

وعن أبي سلمة قال سألت أبا سعيد وكان لي صديقا فقال اعتكفنا مع النبي صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان فخرج صبيحة عشرين فخطبنا وقال إني أريت ليلة القدر ثم أنسيتها أو نسيتها فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر وإني رأيت أني أسجد في ماء وطين فمن كان اعتكف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فليرجع فرجعنا وما نرى في السماء قزعة فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد وكان من جريد النخل وأقيمت الصلاة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين في جبهته. متفق عليه
ولمسلم من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد : ” اعتكف العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر قبل أن تبان له ، فلما انقضين أمر بالبناء فقوض ، ثم أبينت له أنها في العشر الأواخر ، فأمر بالبناء فأعيد ”
وفي رواية: ” اعتكف العشر الأول ثم اعتكف العشر الأوسط ثم اعتكف العشر الأواخر ” ، وفي رواية : ” إن جبريل أتاه في المرتين فقال له : إن الذي تطلب أمامك ” وهو بفتح الهمزة والميم أي : قدامك.

وفي هذه الأحاديث إشارة ظاهرة إلى رجحان كون ليلة القدر منحصرة في رمضان ، ثم في العشر الأخير منه، ثم في أوتاره لا في ليلة منه بعينها ، وهذا هو الذي يدل عليه مجموع الأخبار الواردة فيها .

[COLOR=#CA2703]علامات ليلة القدر[/COLOR]:

وقد ورد لليلة القدر علامات ، ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع وغيرهما منها:
١- الطمأنينة والسكون كما قال تعالى:(سلام هي حتى مطلع الفجر)
٢- قوة الإضاءة والنور
٣- الرؤيا في المنام كما حصل لبعض الصحابة
٤- نشاط المؤمن في قيامها والعمل فيها وهذا من توفيق الله له
٥- أن الشمس تطلع صبيحتها صافية وليس لها شعاع ففي صحيح مسلم عن أبي بن كعب : ” أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها ” وفي رواية لأحمد من حديثه : ” مثل الطست ” ونحوه لأحمد من طريق أبي عون عن ابن مسعود وزاد : ” صافية ” ومن حديث ابن عباس نحوه ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:فهذه العلامة التي رواها أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم من أشهر العلامات في الحديث ، وقد روي في علاماتها‏ : ‏ أنها ليلة بلجة منيرة ، وهي ساكنة لا قوية الحر ، ولا قوية البرد ، وقد يكشفها اللّه لبعض الناس في المنام أو اليقظة ، فيرى أنوارها ، أو يرى من يقول له‏ : ‏ هذه ليلة القدر ، وقد يفتح على قلبه من المشاهدة ما يتبين به الأمر‏ . ‏ واللّه تعالى أعلم.اهـ
ولابن خزيمة من حديثه مرفوعا : ” ليلة القدر طلقة لا حارة ولا باردة ، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة ” ولأحمد من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا : ” إنها صافية بلجة كأن فيها قمرا ساطعا ، ساكنة صاحية لا حر فيها ولا برد ، ولا يحل لكوكب يرمى به فيها ومن أماراتها أن الشمس في صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر ، ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ ” ولابن أبي شيبة من حديث ابن مسعود أيضا : ” أن الشمس تطلع كل يوم بين قرني شيطان ، إلا صبيحة ليلة القدر “.

وله من حديث جابر بن سمرة مرفوعا : ” ليلة القدر ليلة مطر وريح ” ولابن خزيمة من حديث جابر مرفوعا في ليلة القدر : ” وهي ليلة طلقة بلجة لا حارة ولا باردة ، تتضح كواكبها ولا يخرج شيطانها حتى يضيء فجرها ” ومن طريق قتادة أبي ميمونة عن أبي هريرة مرفوعا : ” إن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى ” وروى ابن أبي حاتم من طريق مجاهد : ” لا يرسل فيها شيطان ، ولا يحدث فيها داء ” ومن طريق الضحاك : ” يقبل الله التوبة فيها من كل تائب ، وتفتح فيها أبواب السماء ، وهي من غروب الشمس إلى طلوعها ” وذكر الطبري عن قوم أن الأشجار في تلك الليلة تسقط إلى الأرض ثم تعود إلى منابتها . وأن كل شيء يسجد فيها . وروى البيهقي في ” فضائل الأوقات ” من طريق الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة أنه سمعه يقول : إن المياه المالحة تعذب تلك الليلة . وروى ابن عبد البر من طريق زهرة بن معبد نحوه . اهـ.

وقد كان الصحابة يتذاكرونها ويسألون عنها فقد روى الإمام أحمد والإسماعيلي في مستخرجه على البخاري أن عمر بن الخطاب سأل الصحابة فقال من يعلم ليلة القدر فقال ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هي في العشر الأواخر هي في تسع يمضين أو في سبع يبقين» يعني ليلة القدر وفي رواية «التمسوا في أربع وعشرين» ورواه البخاري مختصرًا وأخرجه محمد بن نصر في ” قيام الليل ” وزاد في آخره : ” أو آخر ليلة “.

قال ابن حجر: وقد رواه عبد الرزاق موقوفا فروى عن معمر عن قتادة وعاصم أنهما سمعا عكرمة يقول : ” قال ابن عباس : دعا عمر أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فسألهم عن ليلة القدر ، فأجمعوا على أنها العشر الأواخر ، قال ابن عباس : فقلت لعمر إني لأعلم – أو أظن – أي ليلة هي ، قال عمر : أي ليلة هي؟ فقلت : سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر ، فقال : من أين علمت ذلك؟ قلت : خلق الله سبع سموات ، وسبع أرضين ، وسبعة أيام ، والدهر يدور في سبع ، والإنسان خلق من سبع ، ويأكل من سبع ، ويسجد على سبع ، والطواف والجمار وأشياء ذكرها ، فقال عمر : لقد فطنت لأمر ما فطنا له ” فعلى هذا فقد اختلف في رفع هذه الجملة ووقفها فرجح عند البخاري المرفوع فأخرجه وأعرض عن الموقوف ، وللموقوف عن عمر طريق أخرى أخرجها إسحاق بن راهويه في مسنده والحاكم من طريق عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس وأوله : ” أن عمر كان إذا دعا الأشياخ من الصحابة قال لابن عباس : لا تتكلم حتى يتكلموا ، فقال ذات يوم : إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر وترا ، أي الوتر هي؟ فقال رجل برأيه : تاسعة سابعة خامسة ثالثة . فقال لي : ما لك لا تتكلم يا ابن عباس؟ قلت : أتكلم برأيي؟ قال : عن رأيك أسألك . قلت : ” فذكر نحوه ، وفي آخره : ” فقال عمر : أعجزتم أن تكونوا مثل هذا الغلام الذي ما استوت شئون رأسه ”
ورواه محمد بن نصر في ” قيام الليل “، وزاد فيه : وأن الله جعل النسب في سبع والصهر في سبع ، ثم تلا : حرمت عليكم أمهاتكم ، وفي رواية الحاكم : ” إني لأرى القول كما قلت “.

وروى أحمد من طريق سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال : أتيت وأنا نائم فقيل : لي : الليلة ليلة القدر ، فقمت وأنا ناعس ، فتعلقت ببعض أطناب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإذا هو يصلي ، قال : فنظرت في تلك الليلة فإذا هي ليلة أربع وعشرين قال ابن حجر: وقد استشكل هذا مع قوله في الطريق الأخرى : إنها في وتر ، وأجيب بأن الجمع ممكن بين الروايتين أن يحصل ما ورد مما ظاهره الشفع أن يكون باعتبار الابتداء بالعدد من آخر الشهر ، فتكون ليلة الرابع والعشرين هي السابعة ، ويحتمل أن يكون مراد ابن عباس بقوله : ” في أربع وعشرين ” أي : أول ما يرجى من السبع البواقي فيوافق ما تقدم من التماسها في السبع البواقي ، والذي يظهر أن في التعبير بذلك الإشارة إلى الاحتمالين ، فإن كان الشهر مثلا ثلاثين فالتسع معناها غير الليلة ، وإن كان تسعا وعشرين فالتسع بانضمامهما والله أعلم .

الاجتهاد والدعاء في ليلة القدر
يستحب مع قيامها الاجتهاد بالأعمال الصالحة خاصة القيام والدعاء لحديث أبي هريرة المتفق عليه:«من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً عفر له ما تقدم من ذنبه» وكان النبي صلى الله عليه يحيي العشر كلها طلباً لها وكان الصحابة يجتهدون في إحيائها وعن عائشة قالت قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها قال «قولي اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني» قال هذا حديث حسن صحيح.

وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر. متفق عليه . ولأحمد ومسلم : كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها.
والحديث فيه دليل على مشروعية الحرص على مداومة القيام في العشر الأواخر من رمضان وإحيائها بالعبادة واعتزال النساء ، وأمر الأهل بالاستكثار من الطاعة فيها وقولها: ( وأيقظ أهله ) أي للصلاة . وفي الترمذي عن أم سلمة : لم يكن صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه.

[COLOR=#C72603]هل يمكن معرفة ليلة القدر[/COLOR]:

اختلف العلماء في معرفة ليلة القدر اختلافا كثيراً واحتجوا لأقوالهم بحجج مما يدل على أنها غير معينة بل متنقلة في الشهر لكن أرجاها العشر الأواخر وأوتارها أرجى.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رضي اللّه عنه وأرضاه : ‏ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان هكذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏ : ‏ ‏ ‏«هي في العشر الأواخر من رمضان‏ »‏‏ . ‏ وتكون في الوتر منها‏ . ‏
لكن الوتر يكون باعتبار الماضي ، فتطلب ليلة إحدى وعشرين ، وليلة ثلاث وعشرين ، وليلة خمس وعشرين ، وليلة سبع وعشرين ، وليلة تسع وعشرين‏ . ‏
ويكون باعتبار ما بقى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏ : ‏ ‏ «‏لِتَاسِعةٍ تَبْقِى ، لِسَابعةٍ تبقى ، لخامِسةٍ تَبْقَى ، لِثَاِلثةٍ تَبْقَى‏ »‏‏ . ‏ فعلى هذا إذا كان الشهر ثلاثين يكون ذلك ليال الإشفاع ، وتكون الإثنين وعشرين تاسعة تبقى ، وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى ، وهكذا فسره أبو سعيد الخدري في الحديث الصحيح‏ . ‏ وهكذا أقام النبي صلى الله عليه وسلم في الشهر‏ . وإن كان الشهر تسعاً وعشرين ؛ كان التاريخ بالباقي ، كالتاريخ الماضي‏ . ‏
وإذا كان الأمر هكذا ، فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأواخر جميعه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏ : ‏ ‏ «تَحروها في العشر الأواخر‏». ‏ وتكون في السبع الأواخر أكثر ، وأكثر ما تكون ليلة سبع وعشرين كما كان أبي بن كعب يحلف أنها ليلة سبع وعشرين ، فقيل له‏ : ‏ بأي شيء علمت ذلك‏؟‏ فقال‏ : ‏ بالآية التي أخبرنا رسول اللّه أخبرنا أن الشمس تطلع صبحة صبيحتها كالطَّشْت ، لاشعاع لها‏ . اهـ.

قال ابن حجر أيضاً: واختلفوا هل لها علامة تظهر لمن وفقت له أم لا؟ فقيل : يرى كل شيء ساجدا . وقيل : يرى الأنوار في كل مكان ساطعة حتى في المواضع المظلمة . وقيل : يسمع سلاما أو خطابا من الملائكة ، وقيل : علامتها استجابة دعاء من وفقت له . واختار الطبري أن جميع ذلك غير لازم ، وأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء ولا سماعه .

واختلفوا أيضا هل يحصل الثواب المرتب عليها لمن اتفق له أنه قامها ، وإن لم يظهر له شيء ، أو يتوقف ذلك على كشفها له؟ وإلى الأول ذهب الطبري والمهلب وابن العربي وجماعة ، وإلى الثاني ذهب الأكثر ، ويدل له ما وقع عند مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ : ” من يقم ليلة القدر فيوافقها ” وفي حديث عبادة عند أحمد : ” من قامها إيمانا واحتسابا ثم وفقت له ” قال النووي معنى يوافقها أي : يعلم أنها ليلة القدر فيوافقها ، ويحتمل أن يكون المراد يوافقها في نفس الأمر ، وإن لم يعلم هو ذلك . وفي حديث زر بن حبيش عن ابن مسعود قال : ” من يقم الحول يصب ليلة القدر ” وهو محتمل للقولين أيضا . وقال النووي أيضا في حديث : ” من قام رمضان ” وفي حديث : ” من قام ليلة القدر ” : معناه ” من قامه ولو لم يوافق ليلة القدر حصل له ذلك ، ومن قام ليلة القدر فوافقها حصل له ، وهو جار على ما اختاره من تفسير الموافقة بالعلم بها ، وهو الذي يترجح في نظري ، ولا أنكر حصول الثواب الجزيل لمن قام لابتغاء ليلة القدر وإن لم يعلم بها ولو لم توفق له ، وإنما الكلام على حصول الثواب المعين الموعود به ، وفرعوا على القول باشتراط العلم بها أنه يختص بها شخص دون شخص فيكشف لواحد ولا يكشف لآخر ولو كانا معا في بيت واحد .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله الصحيح أن الإنسان ينال أجرها وإن لم يعلم بها أما قول بعض العلماء إنه لا ينال أجرها إلا من شعر بها أقوال ضعيف جداً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً» ولم يقل عالماً بها ولو كان العلم بها شرطاً في حصول هذا الثواب الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم.اهـ وقال أيضاً من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً سواء علم بها أو لم يعلم حتى لو فرضأن الإنسان ما عرف أماراتهاأو لم ينتبه لها بنوم أو غيره ولكن قامها إيماناً واحتساباً = فإن الله يعطيه ما رتب على ذلك وهو أن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه ولو كان وحده.اهـ.

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله : قد ترى ليلة القدر بالعين لمن وفقه الله سبحانه، وذلك برؤية أماراتها وكان الصحابة رضي الله عنهم يستدلون عليها بعلاماتها، ولكن عدم رؤيتها لا يمنع حصول فضلها لمن قامها إيماناً واحتساباً فإذا صادف قيامه هذه الليلة نال أجرها وإن لم يعلمها قال النبي صلى الله عليه وسلم :«من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» رواه البخاري ومسلم وفي رواية أخرى خارج الصحيحين:«من قامها ابتغاءها ثم وفقت له غفر له ماتقدم من ذنبه وما تأخر»اهـ.

قلت: الحديث رواه الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت ومما يدل على هذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما رفع العلم بها «تحروها في العشر الآواخر» وبين علامتها في نهار ذلك اليوم وأن الشمس تطلع صبيحتها بيضاء لا شعاع لها وهذه علامة تظهر بعد مضيها لمن لم يرها في الليل. والله أعلم.

قال الحافظ أبو عيسى الترمذي بعد أن روى حديث عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» قال: وفي الباب عن عمر وأبي وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله وابن عمر والفلتان بن عاصم وأنس وأبي سعيد وعبد الله بن أنيس والزبيري وأبي بكرة وابن عباس وبلال وعبادة بن الصامت قال أبو عيسى حديث عائشة حديث حسن صحيح وقولها يجاور يعني يعتكف وأكثر الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «التمسوها في العشرالأواخر في كل وتر» وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر إنها ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرين وآخر ليلة في رمضان قال أبو عيسى قال الشافعي كأن هذا عندي والله أعلم أن النبي عليه السلم كان يجيب على نحو ما يسأل عنه يقال له نلتمسها في ليلة كذا فيقول التمسوها في ليلة كذا قال الشافعي وأقوى الروايات عندي فيها ليلة إحدى وعشرين قال أبو عيسى وقد روي عن أبي بن كعب أنه كان يحلف أنها ليلة سبع وعشرين ويقول أخبرنا رسول الله بعلامتها فعددنا وحفظنا وروي عن أبي قلابة انه قال ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر.اهـ.

قلت: بل الأحسن أن يقال إنه صلى الله عليه وسلم يذكر ذلك حسب السنين فسنة تكون في ليلة إحدى وعشرين وسنة في ليلة ثلاث وعشرين وسنة في ليلة خمس وعشرين وهكذا فيخبر السائلين حسب ذلك وقد اختلف العلماء لذلك اختلافاً كثيراً في تحديد الليلة التي يرجى أو يتأكد أنها ليلة القدر حتى بلغت أقاويلهم المحكية في كتب الخلاف وشروح الحديث أكثر من خمسة وأربعين قولاً سنذكرها إن شاء في مقال لاحق وبالله التوفيق ونسأله أن يوفقنا لإدراكها بعمل صالح وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ..

[COLOR=#C91604]يتبع في المقال التالي إن شاء الله[/COLOR]…

كتبه :
[COLOR=#074CCA]

سعد بن شايم
[/COLOR]


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com