ما أكثر الوعاظ!


ما أكثر الوعاظ!



[COLOR=#000000][FONT=Simplified Arabic][SIZE=5][B]

يقول الشاعر : (ما أقبح التزهيد من واعظ .. يزهد الناس ولا يزهد). إن عملية الوعظ هي البعد الأساسي من أبعاد توعية الناس وتحسين مداركهم، وهي عنصر بناء ووعي، ومصدر إلهام وعطاء، والوعظ رافد أساسي لإصلاح المجتمع وتقويمه، إذ يدخل في تشكيل الثقافة العامة للمجتمع وهو وسيلة فعالة لتغيير الواقع المتشنج والصراعات والاختلافات الاجتماعية المتناقضة، وتحريك الجامد والنهوض به، فالحياة الاجتماعية ككل لا يمكن أن تخلو من المشكلات والمنغصات والرداءات والسلبيات المختلفة والمتنوعة، لكن للواعظ شروطا هامة ومهمة، وهو وضع منهجية واضحة لنفسه ودعم هذه المنهجية بكل مفردات الثقافة التي تستمد حضورها من إرث علمي وثقافي وفق سلم أولويات بائن يعتمد على أمانة الطرح في القول والعمل والتثبت.

إن الواعظ لا ينحصر دوره في التلقين والشرح والطرح وإن كانت أشياء لها ملحها وزادها، لكن العمل بما يقوله الواعظ ويتلفظ به يعتبر معيارا مهماً لمستواه الفكري والروحي والأخلاقي والتعاملي وقواه الإبداعية.

إن على الواعظ التقيد التام بما يقول به ويحث عليه وينظر، ما يعني أن يكون إنسانا سويا أمينا قبل أن يكون واعظا مرشدا، أن تلبس القول والعمل به يعتبر شرطا أساسيا من شروط النجاح والقبول، بل هو الأساس المتين، إن لعملية الوعظ قيما وآفاقا واسعة ومتفردة ونطاقات فعالة في ترسيخ إيجابيات الحياة العامة، كالتسامح، والتكافل، واحترام العقل، وكرامة الإنسان وغير ذلك من القيم الإنسانية النبيلة والمشتركة بين الناس، وعلى الواعظ العاقل الفطن إثراء نفسه قبل الآخرين بهذه الصفات الحميدة بعيداً عن الإيديولوجيات السوداء، والتنظيرات الرمادية المبهمة، والضبابية في الطرح، وقتل الطموحات النقية.

إن مسؤولية الوعظ مسؤولية عظيمة، وتحتاج إلى الواعظ الحكيم المحنك الذي يملك أدوات الطرح الدينية والفلسفية والأدبية والتشريعية والقيم والمثل العامة، ليخرج بالمجتمع من دائرة الضيق التي تولد أنماطا فكرية غريبة عن القيم والتاريخ والتراث الإنساني، لتحل محلها ثقافة الراهن المنفتح، والتوافق، والتراضي، والتنازل المتبادل، بعيدا عن التسلط، والاحتكار، والإلغاء، والنزعة الشمولية، وتأجيج المجتمع وتشتيته وتفريقه، وبذلك يفتح هذا الواعظ الحكيم المجال الأبيض الناصع أمام الجميع. إن على الواعظ امتلاك ثقافة متوازنة، تجمع بين توجهاته وأقوالها وتنظيراته وبين أفعالها وأعماله على أرض الواقع، رافضا أن ينتصر أحدهم على الآخر.

أن الواعظ الذي يزهد الناس ولا يزهد هو صاحب الحظ الأدنى وليس بصاحب الحظ الأوفر والأوفى في اجتذاب قلوب الناس وتصحيح المسارات الملتوية والانحرافات السلوكية المبهمة، إن الواعظ الذي يركب موجة الوعظ دون مهنية ولا حرفية ولا قاعدة ثقافية وتشريعية، وينطلق يخطب في الناس بنبرات حادة وغاضبة غاب عنها وهج القدرة على الإقناع والنفاذ إلى الأعماق يحتاج إلى التأني والتراجع ومراجعة الذات، إن الواعظ الذي يضعف من أهمية الحياة والعمل الدنيوي ويعمل على ثني الروح الإبداعية للأفراد وإسقاط أنتاجهم وأحلامهم وتطلعاتهم وآمالهم وهو بالمقابل يعمل بشراهة تامة وعالية ومتتابعة من أجل الظفر بماديات الحياة الدنيوية ومحتوياتها بصورة كبيرة وجشع عظيم واحتواء كبير لا يصلح لأن يعتلي منبرا ولا حتى كرسي خشبي صغير متهالك ، أن الأمثلة كثيرة ومتعددة ولا يعنيني ذكرهم ولا تحديدهم في هذا المقام ، أن الواعظ المتلون والمتشكل الذي يشبه العجينة والذي يرسم الأشياء ويفصلها حسب مزاجه ومبتغاة وربحه وخسارته يجب أن يدرك نفسه ويتوقف ، لأننا في زمن أصبح تمييز البشر واكتشافهم عملية يسيره وسهلة ولا تحتاج إلى عبقرية غليظة.

أن الواعظ الذي يحض الناس على التقشف والزهد وهو بالمقابل يسكن أفخر القصور ويركب أفخم السيارات ويرتدي أغلى البشوت وفي يده أغلى الساعات ذات الماركات العالمية وعلى عينية أثمن النظارات الإيطالية ويتدهن بأجود أنواع الكريمات ويتعطر بأنقى أنواع العطور الكمبودية والجاوية والفرنسية ناهيك عن العدد الكبير للخدم والحشم والحراس والسائقين يعني وجود خلل واضح في تركيبته النفسية والروحية ، أن الواعظ الذي صرع الناس بأشرطته الدموية والتكفيرية والدعوة إلى الفوضوية والعبثية واستعداء الناس والأنظمة وحث الناس بصراخ كبير على ترك الدنيا وما حوت ردحا طويلا من الزمن ونجدة في الأخير يعمل عكس ذلك تماما بل تمسك بالدنيا وتشبث وتغير وتبدل من حال إلى حال ومن لبس إلى لبس ومن حياة تقشف إلى حياة رغد وتنعم وركون تام لها.

إن الوعاظ كثيرون، لكن المؤثرين منهم والصادقون قليلون لأن أقوالهم لم تتطابق مع الأفعال فباءت مساعيهم بالفشل الذريع وانكشفت أوراقهم وبانت عوراتهم . من هذا المنطلق يحق لي أن أناشد بعض الوعاظ قائلا لهم: عليكم أن تكونوا وعاظا متعظين، قبل أن تكونوا وعاظا (متحذلقين) أو (بهلوانيين) أو (مسرحيين) أو( متميلحين) أو أصحاب (بهارات) بعضها حارق والكثير من بعضها الآخر باهت وليس به طعم ، قال سليمان بن معبد: (يا آمر الناس بالمعروف مجتهداً.. ابدأ بنفسك قبل الناس كلهم).

[COLOR=#004AFF]رمضان جريدي العنزي[/COLOR]
[/B][/SIZE][/FONT][/COLOR]


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com