سلمان العودة: القرآن كله جاء لمعالجة الـ”أنا” الفاسدة وبناء الـ”أنا” الإيجابية


سلمان العودة: القرآن كله جاء لمعالجة الـ”أنا” الفاسدة وبناء الـ”أنا” الإيجابية



قال الدكتور سلمان بن فهد العودة، الأمين العام المساعد لاتحاد العلماء المسلمين، إن لفظة”أنا” وردت في القرآن الكريم نحو ست وستين مرة، منها ستون تقريبا في سياق إيجابي، مثل قول نبي الله يوسف -عليه السلام- ( أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي)، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا)، إلى غير ذلك، مشيرا إلى أنّ الأنا في هي ضمير له طابع الإيجابية، إذا أشارت إلى الاعتراف بالذنب، وتحمُّل المسؤولية، والتحدث بفضل الله ونعمته، كما في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: « مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا ». قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا. قَالَ « فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً ». قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا. قَالَ « فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا ». قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا. قَالَ « فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا ». قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا اجْتَمَعْنَ فِى امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ »، وحذر في الوقت ذاته من الـ”أنا” السلبية التي تجور بالإنسان على نفسه.

وأوضح ـ في حلقة أمس من برنامج برنامجه الرمضاني “ميلاد” والتي جاءت بعنوان “أنا” ـ أنّ الـ”أنا” ليست شيئاً يستعاذ منه بشكل مطلق بدليل أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِى)، ولم يقل: أعوذ بك من نفسي، مشيراً إلى أنّ الـ”أنا” المسئولة، هي التي تشتمل على ثقة واعتداد معتدل ، وهي الـ”أنا” المؤمنة بالله -سبحانه وتعالى-، المعترفة، والمعتذرة أيضاً عن الخطأ أياً كان من الزوج، من الزوجة، من المسئول، من الكبير، من الصغير، من الحاكم.

وأضاف أن السلبي منها هو عكس ذلك ، مثل قول الشيطان عن نفسه (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)، بل إنه نسب الغواية إلى الله -سبحانه وتعالى- حينما قال (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) ، بينما آدم كان يقول: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا)، فهنا نلاحظ الفرق بين الـ”أنا”، في الآيتين.

ولفت د. العودة إلى أن كلمة “أنا” هي أكثر الكلمات تكراراً على اللسان، بحيث لا يستطيع أحد أن يتجرد منها، مشيرا في الوقت ذاته إلى أهمية التخفيف من استخدامها، بحيث يمكن معرفة أنّ الـ”أنا” زائدة أو ناقصة عند الإنسان من خلال كم تكرارها، ومدى استطاعته التخفيف منها أو استبدالها بغيرها من الكلمات حتى لا يطغى الإنسان على نفسه.

واعتبر الشيخ العودة أنّ حب النفس ليس مذموماً بذاته، بدليل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « وَأَحِبَّ لأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ »، وإنما المذموم حينما يتجاوز هذا الحب قدره مثل أي شيء في الحياة، إذا ازداد عن الحد انقلب إلى الضد.

ولفت إلى أن هناك صوراً أخرى أيضاً للتعبير عن الـ”أنا” مثل الألقاب الوظيفية، والتي عادة ما تكون مصحوبة بـ”معالي” أو “سعادة” أو “فخامة” أو “فضيلة” أو “سماحة”،مشيرا إلى أن الكثير من الناس يبالغون في تقدير مثل هذه الأشياء، ويحاسبون من عندهم إذا لم يقوموا بأدائها على الوجه الأكمل، نتيجة العادة، مشددا على ضرورة أن يتربي الإنسان على عدم الانسياق وراء هذه الألقاب والمسميات.

وأشار د. العودة إلى أن مجتمعاتنا العربية تبالغ في اعتبار هذه المصطلحات خاصة في الدوائر السياسية،مشيراً لى أنه في إحدى الدول تم إعادة رسالة لأنها لم تتضمن كلمة “صاحب الفخامة” أو “الجلالة” أو شيء من هذا القبيل، وذلك مثل كلمة “دكتور”، التي تخرج ـ أحياناً ـ عن طابعها في الجامعة أو في مقر العمل لتصبح نوعا من الفخر أو المباهاة على الرغم من أنه قد يكون تم الحصول عليها بطريقة غير قانونية.

ولفت إلى أن البعض قد يلجأ إلى تحقيق ذاته عن طريق مخالفة الآخرين، “خالف تعرف”، مشيرا إلى أن البعض قد يتعمّد المخالفة حتى يُعرف؛ لأنه لا يستطيع أن يُثبت ذاته من خلال عمل إيجابي فيسير عكس التيار، لافتا إلى أن هذه الكلمة في أحيان أخرى تستخدم أيضاً ضد كل من قدّم رؤية جديدة أو مفهوماً إيجابياً أو رأياً قد يكون سديداً ولكنه غير مطروق مثلما حدث مع الرسل، ورُمي بها الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، كما اتهم بها المصلحون والمجددون عبر العصور.

وأشار د. العودة إلى أن اكتشاف الإنسان لذاته يبدأ من الطفولة، عندما يسمع تلك الحبال الصوتية للأبوين تنطق بالاسم الذي اختير له، فهنا يبدأ يكتشف أن هذا اسمه -مثلاً- محمد، فالاسم هذا يصبح اسماً جميلاً وتجد أن بعض الأطفال يعبر به عن نفسه، لا يقول أنا ؛ وإنما يقول محمد جائع، محمد عطشان، محمد مريض، محمد خائف، تتلوها مرحلة أن يعرف كلمة أنا ويسمعها أيضاً ممن حوله، لتصبح الكلمة السحرية الجميلة التي سوف تصحبه إلى آخر عمره ، مشيرا إلى أن الطفل، لا يعي نفسه بشكل جيد لأنه يحتاج بعد ذلك إلى أن يعي على فترات متقدمة أنه ذكر وليس أنثى، أنه صاحب لون معين، أنه ينتمي إلى بلد، إلى ملة أو مذهب أو دين،. ولفت إلى أنّ مسألة الأنا هذه لا تتحقق بين عشية وضحاها وإنما تتحقق خلال مرحلة طويلة عند الأطفال.

وقال الشيخ العودة: إن الكثير من الناس بدلاً من أن تزيد معرفتهم بالأنا إذا كبروا تصبح الأنا عندهم غامضة، مشيرا إلى ضرورة أن نتعرف جميعاً إلى ذواتنا، لأن بداخلنا كنوز من المعرفة والخير والإيجابية والقدرات التي زودنا الله تعالى بها، فعلى الإنسان إذا كبر يجب أن يصبح عنده نوع من التعرف على الأنا بشكل أفضل، لتحقيق الذات، من خلال العمل، والإنجاز، و الإبداع.

وشدد على ضرورة ملاحظة الذات بحيث يتعلم الإنسان كيف يراقب ذاته بدلاً من أن يراقب الآخرين عن طريق العزلة ولذلك شُرع لنا الاعتكاف، وعن طريق الأصدقاء الأشبه ما بالمرآة التي ينعكس عليها الإنسان بإيجابياته وسلبياته، وعن طريق القراءة، لافتا إلى أن هناك دورات -أحياناً- في التنمية البشرية تساعد الإنسان في التعرف على ذاته.

وأضاف “حينما تكون لديك أهداف طموحة ومبالغ فيها ربما تجور عليك لأن الظروف لا تسمح بها، وإمكانياتك لا تساعد على تحقيقها من هنا فلا بد للإنسان أن يتصالح مع نفسه بمطالعة جوانب النقص الموجودة والتعامل معها، مشيرا في الوقت ذاته إلى ضرورة أن يسعى الإنسان لإصلاح العيوب دون أن تحول هذه إلى معوقات أو سبب لليأس والقنوط.

وقال “العزلة الحقيقة هي العزلة التي يكون معها تعبّد مثل العزلة في أوقات الصيام أو غيرها أو حتى في ساعة من الليل أو النهار لا يلزم أن تكون عزلة طويلة على مدى أيام أو شهور، وتكفي عزلة لساعة، (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) ، بحيث يبتعد الإنسان عن ضجيج الحياة وعن صخب الكون من حوله ويُقبل على نفسه بشكل صحيح يتعرّف عليها”.

ولفت إلى الكلمة المشهورة لسفيان الثوري والتي يرفعها بعضهم منسوبة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن كانت لا تصح: “من عرف نفسه استراح”، بمعنى أن مديح الناس لا ينفعه ولا يضره، إضافة إلى أنه يستريح من ذم الناس؛ لأنه ربما يكون ذما في غير محله فمادام الإنسان واثقاً من نفسه ومن صدق دوافعه ونواياه ومقاصده فلا يعنيه المدح. وأضاف: “إن هناك كلمة أخرى تقرن بها وهي “من عرف نفسه عرف ربه”، وهذه الكلمة يقولها ابن عربي، بينما أشار ابن تيمية -رحمه الله- بأن هذا حديث موضوع لا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، إلا أن هناك معنى جميلا لأن معرفة النفس بجوانبها بما فيها الجسد يمنح الشعور بالمنة والنعمة، وعدم المغالاة أيضا بما يجور عليه كما فعل أهل الكتاب.

واعتبر أنّ الـ”أنا” السلبية مثل الخلايا السرطانية إذا تضخّمت تحتاج إلى معالجة واستئصال وإلا فإنه سوف يأتي على الجسد، مشيرا إلى أنّ “النرجسية” كما يقول كثير من الباحثين، واحدة من أهم خمس اضطرابات تصيب الإنسان ـ بحسب دراسة حديثة. ولفت إلى أن كلمة الـ”أنا” تتكرر عند الشعراء على سبيل المثال لأن عندهم القدرة على التصريح وعلى البوح من أيام امرئ القيس إلى المتنبي كما في قوله:

أَنا الَّذي نَظَرَ الأَعمى إِلى أَدَبي وَأَسمَعَت كَلِماتي مَن بِهِ صَمَمُ

أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ

إضافة إلى المعاصرين مثل نزار قباني الذي تجده ما بين كلمة وكلمة يبرز لفظ “أنا” أحياناً في مجالها وأحياناً في غير مجالها، مشيراً إلى أنه لا يلزم أن يكون الشعراء الأكثر نرجسية وإنما هم أكثر الناس تعبيراً عن “النرجسية”، لأن عندهم قدرة تعبيرية عالية، مضيفاً أن “النرجسية توجد عن الرجال أكثر مما توجد عند النساء بل هي عند الرجال بشكل مفرط وكبير”.

واعتبر د. العودة أنّ الحديث عن الإنجاز والمبالغة فيه إحدى مشكلات “النرجسية” لدى البعض، مشيرا إلى أن الإنجاز ـ في حد ذاته ـ يعتبر بداية جيدة غير أن المشكلة تكمن كما قلنا في “النرجسية” بمعنى أنه يجلس فقط يتغزّل بجماليات عمله. ولفت إلى أنه حتى وإن كان يستحق أن يفرح به كبداية إلا أن المشكلة تكمن في أن تصبح بقية حياته مجرد مدح وثناء وإعجاب بهذا الإنجاز، مما سيعيقه عن إنجازات أخرى.

وبين فضيلته أن أي عمل أو منجز أو مواهب يجب ألا تخلف مفهوم الغرور، وإنما فقط الثقة بالنفس، بحيث يدرك أن كل هذه المواهب والملكات عطاءات من الله -سبحانه وتعالى- (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) بحيث يجب على الإنسان أن يصبح شغوفاً ومشغولاً بالشكر على النعمة سواء كانت نعمة الصحة أو الجمال أو الأهل أو المال أو الولد أو النجاح.

واعتبر أن من أعظم النعم هو “القوة النفسية” لمواجهة الفقر، المرض ، الفشل ، الحرمان، مشيرا إلى أن القوة النفسية تجعل الإنسان صابراً على كل هذه التحديات.

ولفت د. العودة إلى أن كل شخص ـ إلا من ندر ـ يجنح إلى لبس الأقنعة بحيث تصبح هناك مشكلة في تعرّفه هو على نفسه، أو في تعرف الآخرين عليه، مشيرا إلى أن كثيراً من الأطفال يخفون عدم ارتياح من آبائهم وأمهاتهم بسبب شعورهم بأن الأب أو الأم يؤديان دورا مثاليا، أكثر مما يؤديان الدور التربوي الإنساني البسيط.كما لفت أيضا إلى ضرورة ألا نربيهم على أن نجعلهم زينة نتزين بها أمام الناس وإنما يجب أن نتعامل مع أطفالنا كبشر ويشعرون أيضاً بأننا نتعامل معهم بقدر كبير من البساطة والعفوية.

وبين الشيخ سلمان أن القرآن كله جاء لمعالجة الـ”أنا” الفاسدة وبناء الـ”أنا” الإيجابية، مشيرا إلى أن أول سورة نزلت في القرآن الكريم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)، تدعو إلى “القراءة” كنوع من التربية على معرفة الأنا واكتشافها وتحقيق الذات من خلال العلم والمعرفة وليس من خلال الادّعاء وهي أول ما نزلت، ثم إن القراءة باسم الله تعني الارتباط به -سبحانه وتعالى- كخير ما يعالج الأنا، لأن الإنسان إذا ابتعد عن الله -عز وجل- قد يكبر في نفسه ويتضخّم، فبدلاً من أن يعبد الله يعبد نفسه ، بينما إذا عرف الله استراح وآمن به ، لافتا إيضا إلى أن في قوله تعالى (الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) دعوة إلى أن يعرف الإنسان بداياته وأنه مخلوق من علق ويتذكر تلك البداية الأولى.. (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) (العطاء من عند الله -سبحانه وتعالى- .. ثم قال سبحانه (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) يعني تحدث هنا عن طغيان الأنا، وتضخمها والغرور. بينما أشار إلى أن التذكير بالموت (الرُّجْعَى) والبعث يلفت إلى ضعف الإنسان وكما ذكّره بالبداية ذكّره بالنهاية. وفي قوله تعالى: (كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)، دعوة إلى التربية على ضبط الأنا من خلال العبودية لأن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com