العجوز واليتيمة!


العجوز واليتيمة!



[FONT=Simplified Arabic][SIZE=5][B][JUSTIFY]

[CENTER] (1)العجوز [/CENTER]

قال لي ذات صباحا ديسمبري بارد وهو يبصرني بثقل مليء بالغبش ومواجع العجاف من السنين توقظ ليله ، فلا يدري على أي شيء يتكئ ، أعلى جدار أسمنتي بارد ، أم على عصا غليظة يستعين بها عنوة للجلوس ، لأنه إذا جلس لا يستطيع النهوض ، وإذا نهض لا يستطيع على الجلوس ، والحراك بين الحالتين مؤلم وموجع وبه أنين وتعب ، قال لي بثقل كلامي ومخارج حروف غير واضحة ويدين مرتعشتين: تسعون عاما مضت من رحلة الحياة المنهكة وكأنها يوم أو بعض يوم ، وما كسرتني الرياح يوما ، سوى وحدتي القاسية وصرير الباب في الشتاءات الباردة ، يؤنسني مواء القطة العجوز التي تقبع هناك في الزاوية البعيدة وصوت أطفال جارنا الصغار حينما يلعبون في باحة بيتهم المجاور ، ليس لدي مال ولا خيل ولا ضرع بقرة ولا ولد ولا ظل شجرة ، لقد تغيرت الأرض حتى صارت عندي غير الأرض ، وأختلط القمح بالعوسج ، وصار الناس غير الناس ، حتى لكأنهم غرباء ، وما بقى بالحي معين ، تسعون عاما من اللهاث والكبوات والمحاذير ومقاومة الصعاب وأنا أقاوم قدري ، لم أحن رأسي ولا قامتي ولا هامتي سوى للخالق العظيم ، ولم تمتد يدي ولم تجرؤ ولم تتطاول على العبث بمقدرات الآخرين ولا لساني بشؤون الآخرين ولا قدمي سارت نحو المحظور لا في وضح النهار ولا في عتمة الليل ولا في وقت الغسق ، أنا الآن يا بني أصبحت مثل ذاك الرجل المريض الذي أصبحت تتعاقب سبابتيه انتظارا للأجل المحتوم ، والنهاية لم تعد ببعيدة حتى وأن حاولت التطلع وتكبير الأمل ووضع ورقة التوت المبللة بالماء على عيني المتعبتين ، الزمن يا بني ليس زماني ، أنا في زمن تقاطعت فصوله ، لقد ضاقت علي دائرة الضوء وزادت العتمة ، في حنجرتي غصة أشبه ما تكون بالحجر ، قلبي تعرى من قوته وصلابة ، واكتسى رداء الضعف والطراوة ، عشقت تقاطيع الوداع وصباح الفراق ، لكنني سأواصل رحلة عمري المقدرة لي منفيا في زمن الغير، يا بني لا تهجرني مر علي بين فينة وأخرى لأنني ربما أموت بلحظة فلا تدعني لنهش الفأر والقطة ، فقط جهز لي الكفن والحفرة وإقراء علي تراتيل الدعاء الكثيف ، حينها صمت لينام بعمق بعد أن ذرفت عينه دمعة حرى ، خرجت بعدها متسللا بحذر من غرفته الضيقة الباردة وبي شيء من الحزن والوجع والبرد والتساؤلات الكبيرة.

[CENTER](2) اليتيمة [/CENTER]

غريبة الروح يتيمة ، تحدق في الفضاء وحيدة ، لا الطيور عابرة ، ولا الريح تأخذها إلى الغيوم الكثيفة ، لا المطر عندها مطر ، ولا البساتين مكتزة بالثمر ، الحزن عندها يتكوم مثل رمل على شفا جرف ، تفكر في الرتابة ، وترسم على حائطها سلة للفرح الذي قد يجيء ولا يجيء ، كأن عليها أن تغني ، كأن عليها أن تكسر قفص الحزن ، كأن عليها أن تناجي الريح الذاهبة ، كأن عليها أن تشهق في الريح الصغيرة وفي العاصفة ، لا وهج النهارات عندها سعيدة ، ولا للحكايات عندها نهاية ، ابنة الليل هي ، تتوحد في سواده ، الوردة عندها شوكة ، والأصابع غادرة ، وحتى السحابة عندها غير السحابة ، وحيدة ، مثل زهرة فلاة وحيدة ، الحياة عندها مربكة ، لا الصباح عندها صباح ، وساحة الحياة عندها مثل مقبرة ، وحتى الحمام أضاع عنها الرسائل ، جمرة هي في الخراب ، زهرة في السراب ، دمعة في التراب ، يهبط الحزن عليها مثل جنح غراب ، في عروقها هلع أقسى من صقيع ، يستل إلى جلدها مثل أفعى ، مدولبة بالهزائم ، في صوتها زنابق سؤال ، مثل مهرة تحاول أن تكتب تاريخها بالصهيل ، تحاول تنظيم شتاتها ، تصول على حالها من جديد ، تثور ، تحاول أن تمطر حيزها لينبت العشب وزهرة النوار ، عيناها مطوقتان بمساحة ليل الأرق ، سواد حزنها يخل بالبياض ، موجعة هي حزينة ، لكن تحاول أن تكون فراشة ، تطوف حول النجوم ، وتبحث عن نسمة عليلة ، وجدائل صفصاف وحديقة ، هي وحيدة ، حتى في المنام وحيدة ، يتيمة ، معجونة من حلم ومن ألم ، وحزن يخالطه انهزام ، وطعنات سهام ، تحاول أن تزرع النوار حول ضفافها ، لكي يورق الفرح في مداد لا ينام ، الآهات عندها نهر بلاغة ، ولج بحر لا يرام ، والدمعة الحرى عندها أبلغ من ألف كلام وكلام ، يحاصرها الأسى ، ترحل من حزن إلى آخر ، في عينيها القمر المضيء ينزوي ، والليل قد أرخى عليها سدوله ، لحزنها هديل ، يبعثر روحها ويخلطها بالرماد ، في أضلعها يختبئ الخوف ، ويحل في أرديتها العزاء ، لا مواسم لهطول المطر عندها ، لهذا يصاحبها الجفاف ، وحدها تتلمس طرق الحياة ، تحاول فتح الحصون ، لتعيد ترتيب أغصان عمرها اليابسة ، ولتنقش أسمها على سحب معدة للمطر ، تهيئ نفسها واحة للنماء ، وتفتح قلبها رغم الجراح للماء كي ينهمر.

رمضان جريدي العنزي
[email]ramadanalanezi@hotmail.com[/email]
ramadanjready @

[/JUSTIFY][/B][/SIZE][/FONT]


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com