حـــب الوطـــن


حـــب الوطـــن



إن مما غرسه الله تعالى في العقول السليمة والفطر المستقيمة حب الوطن ، ولا غرابة في ذلك ، فهو بكرة الطفولة وأصيل الرجولة :
نَقِّلْ فَؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْهَوَى مَا الْحُـبُّ إِلاَّ لِلْحَبِيـبِ الأَوَّلِ
كَـمْ مَنْزِلٍ فِي الأَرْضِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى وَحَنِينُـهُ أَبَــداً لأَوَّلِ مَـنْـزِلِ

ولذلك فإن من يحاول أن يبغض الناس في أوطانهم يصادم ما فطر الله تعالى عليه البشر ، وقد جاء في الكتاب والسنة ما يدل على عدم المؤاخذة على هذا الحب الجبلي في النفوس ، ومن هذه الأدلة :
1 ـ قوله تعالى : ((وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا )) ، فانظر كيف جعل الله تعالى خروج الروح من الجسد مساوياً لخروج البدن من البلد !

2 ـ ما جاء في قصة بداية نزول الوحي على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، ورجوعه عليه الصلاة والسلام إلى منزله وهو في حال خوف وهلع مما حصل له ، فاصطحبته زوجته ورفيقة دربه وأنيسة وحشته ونصيرة دعوته المرأة العظيمة خديجة بنت خويلد إلى ابن عمها ورقة بن نوفل ، فَقَالَتْ له : «أَيْ عَمِّ؛ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: يَا ابْنَ أَخِي؛ مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ  خَبَرَ مَا رَآهُ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى ، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعاً، يَا لَيْتَنِي أَكُونَ حَيّاً حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ فَقَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ: أَنْصُرْكَ نَصْراً مُؤَزَّراً» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا].
فانظر إلى سؤال النبي لورقة : (( أو مخرجي هم )) ؟ مع أن ورقة أخبره بعداوتهم لدعوته وبإخراجهم له ، ولم يسأ عن الأول ، وإنما سأل عن الأهم ، وهو الإخراج من الوطن . ولهذا كان من أشد المواقف على نفس الرسول خروجه من مكة ، يوضح هذا قوله وهو يلتفت إلى مكة مودعاً لها : ((مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ: مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ» [أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا].

3 ـ قوله صلى الله عليه وسلم : (( اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ؛ وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ؛ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ ؛ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ  : (( اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَفِي مُدِّنَا، وَصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الجُحْفَةِ )) .

4 ـ وهكذا كان الشوق إلى مكة ومرابع الصبا كامناً في نفوس الصحابة المكيين ، ومما حفظته لنا كتب السنة ما أَخْرَجَ البُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: (لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ  الْمَدِينَةَ: وُعِكَ أَبُوبَكْرٍ وَبِلاَلٌ، فَكَانَ أَبُوبَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِـهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ

وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أَقْلَعَ عَنْهُ الحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ يَقُولُ:
أَلاَ لَيْتَ شِعْـرِي هَـلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيـلُ
وَهَـــلْ أَرِدَنْ يَوْمــاً مِيَاهَ مَجَنَّـةٍ وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ

5 ـ لما كانت الغربة عن الوطن لها وقع شديد على النفس جعلتها الشريعة عقوبة يعاقب بها المتعدي لحدود الله ، فقد جمع الشارع الحكيم للزاني البكر بين عقوبتين : الجلد والتغريب عن البلد ، وذلك أن الجلد وحده ربما لا يؤدي إلى الزجر عن اقتراف هذه الكبيرة ، فضم إليه عقوبة أخرى هي التغريب ، فجمع له بين الأذى الجسدي والألم النفسي .

ونحن بحمد الله تعالى قد أكرمنا الله تعالى بوطن جمع الله له محاسن كثيرة ، ولو لم يكن من ذلك سوى وجود الحرمين الشريفين وتحكيم الشريعة ، لكفى بذلك داعياً إلى حب هذا الوطن ، فكيف وعقد محاسنه مكتمل ؟ !!
ولهذا كنت أعجب أشد العجب من تلك العقول المنحرفة التي كانت تحاول أن تبغض الشباب على وجه الخصوص ببلد التوحيد ومعقل السنة المملكة العربية السعودية !!
فلا أدري لأي أدلة يستندون ، وبأي قلوب يعيشون ، أم بأي عقول يفكرون ؟!! كيف لنا أن نقتل مشاعرنا تجاه وطن قد ألفنا أرضه وسماءه وبحره وبره !!!
فاللهم احفظ وطننا ، وأدم عزه ومجده ياحي ياقيوم .


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com