“عشق الأولين” أكثر صدقاً من جيل المصالح!


“عشق الأولين” أكثر صدقاً من جيل المصالح!



تحقيقات - إخبارية عرعر:

عاشت أجيال على قصص مجنون ليلى قيس بن الملوح، وكثير عزة، وحكايات جميل وبثينة، ومغامرات محسن الهزّاني، وما جاء عن هيا وبن عمار، وغيرهم الكثير في عصرنا الحاضر.. قصص حب جميلة وعجيبة وثُقّت ورواها لنا التاريخ، وتناقلتها أجيال متعاقبة من شدة الإعجاب، ومع مرور السنين بدأ هذا الحب العذري يتلاشى رويداً رويداً، فبالأمس القريب ومع شظف العيش وصعوبة تكاليف الحياة كنا نعيش قصص حب جميلة عذرية، فيها عشق، وأدب، واحترام متبادل بين الطرفين، لم يكن فيها تجاوزات لأي محظور، بل كان هدفها الاقتران والزواج، وذهب الجيل الذي إذا ذكر زمنه الجميل يتنهد شوقاً إلى تلك الأيام الخوالي، فقد عاشوا أجمل أيام العمر مع الحب الذي تُوّج بالزواج، بعكس جيل اليوم الذي صار حبه مبنياً على المصالح والتسلية فقط.

حب فطري

أغلب الشباب يمر بفترة البحث عن الاقتران بالجنس الآخر ويميل إليه فيقع ضحية الحب الأول في حياته، ويبني آمالاً عريضة ويعيش جواً من الأحلام بالاقتران بمن أحب، ويكون حبه من محيطه ووسطه الذي يعيشه سواء باختلاس النظر إلى المحبوبة أو السماع عنها من أهله وأقاربه فالأذن تعشق قبل العين أحياناً كما قال الشاعر “بشار بن برد” وهو الكفيف الضرير الذي لم يعقه ذلك عن خوض غمار الحب الأول فتراه يقول:

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة

والأذن تعشق قبل العين أحياناً

ومع مرور الزمن يكبر هذا الحب ويترعرع ويبلغ من قلب صاحبه كل مبلغ، فتراه دائماً مرهف الإحساس يتتبع كل أخبار حبيبه، ويستلذ بسماعها، ويحاول أن يوصل حبه إلى من يحب بأي طريقة، ولو بالمراسيل، وكما نرى كتب الأدب ثرية بالعديد من القصص والحكايات والقصائد التي توثقه على مر الأجيال، ففي السابق كان أمر رؤية الشخص للفتاة التي يحبها ميسراً، وذلك بفضل الترابط الأسري الذي تعيشه البلدات والقرى، وكذلك ترابط جيران الحي الواحد يخدمهم في ذلك نمط البناء التقليدي ببيوته المترابطة وأزقتها الضيقة فباب الجار مقابل باب جاره أو قريب منه على خطوات وبيوتهم مفتوحة وآمنة تحفها الثقة، وتخال أنّ البيوت واحدة فهذا داخل وذاك مارق والأطفال يطوفون بالبيوت ولا تفرقهم من أطفال البيت، فهم يجوبون غرفه وممراته بحرية تامة.

جمعات الشباب

أما الشباب فتكون اجتماعاتهم في تلك الشوارع الضيقة، ويشاهدون الفتيات وهن يتنقلن بين البيوت، وتواتيهم الفرصة للنظر إلى من يرغبون، ولكن بحشمة وأدب، ومن ذلك تبدأ علاقات العشق والغرام الفطري الممزوج بميول الشباب إلى الجنس الآخر للاقتران به، وهي سنة الحياة، فما أن تقع نظرة الشاب على فتاة يرغبها إلاّ وتكون أخوات هذا الشاب أول من يعلمن بذلك، ويباركن اختياره ويبدأ في السؤال عن تلك الفتاة التي سلبت لبه، ويسعى لإعلامها بميوله عن طريق مراسيل الوش جرى لك يا مليحه تزعلين

شفت عينك من وراء طرق اللثام

كلما اقرب ناظري لك تبعدين

وكم جمعت البيوت القديمة بين جدرانها العديد من قصص الغرام حيث كانت الفتيات يتبادلن الزيارات فيما بينهم، وتسنح للشاب نظرة خاطفة إلى أحداهن ممن لم تبدأ بلبس الخمار فيقع حبها في قلبه، فيمضي جل وقته مترقباً لطلتها البهية في زيارة ثانية، فتنشأ قصة حب قد يصارح بها أحد أخواته فتكون الواسطة بينهما في نقل مراسلات الحب البريء العذري، فيكبر الحب وينمو ويزداد ويشعر كل منهما بميول حول الآخر؛ مما يضمن بأن تنتظر الفتاة مجيء هذا الشاب خاطباً بعد أن يبلغا سن الزواج، فتوافق على الفور وتنتهي مراسم هذا الحب بالاقتران.

حب من أول نظره

البعض يؤمن بمقولة: “الحب من أول نظرة”، حيث كان الشباب في الحارة القديمة الصغيرة يشاهدون الفتيات وهن يمشين في جماعات ذهاباً إلى المدرسة، أو السوق، أو لزيارة صديقة لهن، ومنهم من يلمح أحد الفتيات فيقع في حبها وغرامها من أول نظرة، حيث يسعى إلى تتبع أخبارها، ومعرفة من تكون، كي يضع عينه عليها، ويسعى للظفر بها كزوجة له، من خلال السعي مع أخواته لإيصال تلك الرغبة الأكيدة والحب والعشق الذي يحس به، ولا يجد يأساً أحياناً في صدودها، بل تراه يحاول بشتى الوسائل والطرق إلى استمالة قلبها له، حتى يتم له ما يريد من الفوز بها كزوجة له، ومن القصائد الجميلة في الحب العذري الجميل هي قصيدة للشاعر حمد بن عبدالرحمن الدعيج “نديم كميت” يقول فيها:هوى، من خلال أحد أخواته أو إخوته الصغار، وكم تكون سعادته كبيرة حينما يرى القبول وتشابه الميول، حيث يعيش جواً من الأحلام بأن تتحقق رغبة العشق عنده إلى الاقتران والزواج وهو ما يبحث عنه فعلاً، وتمضي الأيام وتكبر وتتقدم الأعمار ويكبر معها الحب، وفي النهاية يتوج هذا الحب البريء والعذري بالزواج حيث يتقدم إلى والدها خاطباً، وهو متيقناً إيجاب القبول مسبقاً لعلمه اليقين برغبة وميول الفتاة إليه، خصوصاً إذا كان هذا الشخص مستقيماً.

يا مليحه صابني سهم الغرام

وش جرى لك يا مليحه تزعلين

شفت عينك من وراء طرق اللثام

كلما اقرب ناظري لك تبعدين

يا مليحه لا تغلي بالسلام

سنة الله بيننا في كل حين

اسمعيني بالهوى عبرة كلام

تجبر القلب المعنى بالونين

وش بلاك اليوم في رحلة خصام

وان رحلتي يا مليحه ما تجين

ارحمي الخفاق من زود الهيام

وارحمي المجروح من جرح السنين

ليلنا يغشاه من صدك ظلام

والهوى والعين لاجلك ساهرين

يا مليحه طالت المده حرام

والجفا جرحه على الخاطر يبين

لا تزيدين التشره والملام

وافعلي بي يا مليحه ما تشين

رجعي قلبي عليه بالتمام

واطلبيني يا مليحه ما تبين

ما بقالي في الجسم غير العظام

كنني والعمر والله منتهين

الحب القديم

لا شك بأنّ المتصفح لروايات الحب والعشق القديم يجدها منتشرة في كل مجتمع من بقاع العالم فمن هذه القصص ما اشتهر وبلغ عنان السماء، وصار مضرب مثل لكل الأجناس بفضل ذيوع صيته وترجمته إلى معظم اللغات العالمية مثل رواية “روميو وجولييت”، التي تعد من أعظم أعمال الكاتب الإنجليزي “وليام شكسبير”، حتى صارت مضرب مثل للبعض منا حيث يقال لمن يشكو الحب والهوى عبارة تهكم من أصدقائه الذين لا يؤمنون بهذا الحب كقولهم “خفّ علينا.. يا روميو”، وفي أدبنا العربي وردت العديد من القصص الجميلة والعذبة في الحب والعشق والهيام بدءاً من العصر الجاهلي بشعرائه الفطاحلة، الذين سطروا أروع القصائد حتى صارت من المعلقات كمعلقة العاشق امرئ القيس الكندي، مروراً بالعصور الإسلامية المتتالية كالعصر الأموي والعصر العباسي وحتى يومنا هذا، ويقول الشاعر الأموي في تصوير ذلك الحب:

أُحِبُّكِ حُبّاً لَو يُفَضُّ يَسيرُهُ

عَلى الخَلقِ ماتَ مِن شِدَّةِ الحُبِّ

لوعة الفراق

وبعض هؤلاء المحبين أسعده الحظ واستطاع أن يتوج حبه باللقاء والزواج، أما البقية فقد اكتوا بلوعات الفراق، سهروا الليالي الطوال يشرقون بدموعهم من ألم الفراق، إلى أن هام قلة منهم على وجهه، واعتراه الجنون وأصبح مجنون الحب والعشق والهيام كمجنون ليلى قيس بن الملوح، وعروة بن حزام، وغيرهم، حتى صاروا مضرب مثل لمن فقد عقله بسبب الحب والعشق، كما ذكر بعضهم الشاعر عبدالله بن محمد الضويحي في قصيدة غزلية يبين فيها أثر الحب والعشق:

يا بوفهد طرد الهوى به معاناه

معك خبر باللي رمتهم سهومه

فيما مضى لمجنون ليلى وما جاه

عقب الجنون اصبح يشقق هدومه

وعزيز خاله يوم بالبير دلاه

باسباب عليا صار يندم ليومه

ومحسن بحب قويت لا فته دنياه

ومحمد القاضي كونه همومه

الحب المكتوم

ومن أشد أنواع الحب هو “الحب المكتوم” والذي يكون من طرف واحد حيث يتجرع المحب غصات الفراق من محبوبة ظل يمني نفسه بنيل الاقتران بها سنوات شبابه، ولم يسعفه الحال بأن يبوح بحبه خجلاً ممن حوله حتى من أقرب الناس إليه كأهله وأصدقائه، وربما يزداد الأمر سوءاً إذا سبقه إليها خاطب، ورضيت به، وتم الزواج، فيظل طوال عمره في ذكراها التي لا تنقطع عن خياله، ويمضي بقية حياته في تلك الذكرى المؤلمة وان تزوج بغيرها، وان كان شاعراً ظل يردد القصائد فيها دون أن يدرى بمن هو يتغزل، فالمعنى كما يقولون في بطن الشاعر، بينما يعرض البعض من هؤلاء العشاق من طرف واحد عن الزواج كلية ويبقى طوال عمره عازباً، وكأنه يطبق قول الشاعر:

علي ذكراك أعيش العمر

يا ظالم وإنا المظلوم

إنا المظلوم في حبك

وانأ المبلي عجزت أنساك

حب وعياف

مر الكثير من الشباب قديماً بقصص حب وغرام انتهت في الغالب بتحقق اللقاء في عش الزوجية، ولكن ثمة أمر كان يعكر هذا الصفاء، ألا وهو تخوف الناس قديماً من هذا الزواج، الذي يخشى عليه من الفشل، فهم يرددون المثل الذي كان منتشراً بينهم: “من خذ حب.. خلا عياف”، أي من تزوج من فتاة كان يحبها ومغرماً بها فإن هذا الحب والعشق ينقلب مع مرور الأيام إلى الخلاف، ومن ثم يقدم أحدهما على رفض الآخر، فيعافه زوجاً، ويحصل الطلاق، فالكثير من الزواجات التي كانت تسبقها قصص غرامية بين الشاب وحبيبته تنتهي غالباً بالفراق والطلاق؛ مما جعل الكثيرين يخاف من إتمام الزواج بين هذين المتحابين، وكثيراً ما انتهت قصة زوجين كانا متحابين ويجمعهما العشق نهاية غير سعيدة، حيث تكثر بينهما النقاشات والخلافات، وربما كانت الغيرة مستعرة بينهما من شدة الحب والإعجاب؛ لذلك تجد الكثيرين عند زواج مثل هذين العاشقين يضع يده على قلبه خوفاً من حدوث ما يعكر صفو هذا الزواج، بل ويقضي عليه.

اخطبوا لي

في عصرنا الحاضر لم نعد نسمع بقصص حب كما كان الحال عليه سابقاً، وذلك لتغير الحياة الاجتماعية واتساع الهوة بين الناس، حيث صار الاختلاط بين الناس شبه معدوم، وأصبح الاجتماع مقصوراً بين الأقارب، وصارت البيوت متباعدة، فتباعدت معها القلوب، وصار الجار بالكاد يعرف اسم جاره عوضاً عن أن يعرف ما لديه من بنين وبنات، فقد يكون للجار بنات ولا معرفة لجاره بذلك، فهو يدخل لبيته غالباً بسيارته، ويخرج بها ومعه أسرته، فلا ترى داخلاً من الباب ولا خارجاً، وصارت مشاغل الحياة المدنية الحديثة وملهياتها متعددة، فالكل يعيش في زحام الحياة وكأنّه لوحده، بفضل التقنيات الحديثة التي لا تشعره بالملل أو الحاجة إلى الجلوس مع الآخرين والانخراط معهم، بعكس الأمس القريب الذي كانت فيه البيوت متلاصقة، والناس فيها أكثر تماسكاً والتصاقاً؛ مما جعل معظم الزواجات اليوم تتم عن طريق البحث للشاب من قبل أهله عن عروس له من بين المعارف والجيران، حيث يطلب من يرغب الزواج ويكون مستعداً له من أهله البحث عن عروس له فيقول لهم “اخطبوا لي”، وذلك بعد أن يبين المواصفات التي يرغبها في شريكة العمر وزوجة المستقبل، فتبدأ رحلة البحث عن هذه العروس، وتتعدد الخيارات للخاطب، ويختار منها ما يوافق ميوله ورغباته، ومن ثم تتاح له رؤية المخطوبة، فإن رأى لديه ميولاً إليها وقبولاً تم الزواج، ومن بعده الاستقرار.

حب مصالح

يرى البعض بأنّ زمن الحب الحقيقي النزيه والعذري قد انتهى وولى بلا رجعة، وحل محله حب المصالح الذي أصبح هدفه التسلية والعبث وتمضية الوقت فقط، فبالأمس كان الحب حباً خالداً يأخذ بلب المبتلى به ويسلب عقله، ولا يهدأ له بال حتى يتوج هذا الحب الجميل باللقاء، وذلك بالاجتماع في عش الزوجية، عند ذلك تهدأ النفس وتبلغ منتهاها، أما حال الحب اليوم فهو مغاير لذلك، فلا يكاد يوجد إلاّ من يتظاهر بالحب ويخرج الآهات، ويردد الزفرات، حتى تنخدع الفتاة وتصدق بأنّ هذا العاشق المهيام هدفه الاجتماع في عش الزوجية، وقد تنخدع بعض الفتيات بهذا الحب المزيف الذي يميط اللثام عن خبثه مع أول لقاء، حيث يأخذ هذا العاشق الولهان غرضه، ويتحول إلى شخص آخر.

وما أن يقضي إربه يبتعد مخلفاً ضحيته التي كانت تريد العفاف والستر والزواج، وقد أخذ منها أعز ما تملك، وغادر حياتها مسرعاً بعد أن مات حبه المزيف مع أول لقاء، وفي كل يوم نسمع عن ضحية وقعت في شراك هؤلاء العشاق المزيفون، حيث ساعدت أجهزة الاتصال الحديثة في تفشي هذا النوع من العلاقات التي يحذر منها المختصون، إذ تنقلب لقاءات الحب والغرام إلى الابتزاز والمساومة؛ مما جعل الأمر يزداد خطورة.


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com