بركة الرواتب.. من “يكفي الحاجة” إلى “سلفني”!


بركة الرواتب.. من “يكفي الحاجة” إلى “سلفني”!



تحقيقات - إخبارية عرعر:

بين زمنين صفحة اسبوعية توثّق فجوة الفارق بين جيلين، جمعهما تاريخ الماضي ونشوة الحاضر، وأملهما في المستقبل.

ينتظر أصحاب الوظائف نهاية كل شهر تحويل رواتبهم إلى حساباتهم، من أجل الصرف على أنفسهم وأسرهم، وكذلك تسديد المستلزمات التي عليهم تجاه الآخرين، وقليل من الناس من يكيّف نفسه مع الدخل الذي يحصل عليه، بل وربما يستقطع جزءًا يسيراً منه كادخار لما قد يواجهه من أزمات تغنيه عن اللجوء إلى السلف أو الاستدانة من بعض الأشخاص أو البنوك.

وإذا عدنا إلى الوراء قليلاً لعشرات السنين، وجدنا أن تلك الرواتب كانت بسيطة مقارنة بعصرنا الحاضر، وكانت كافية للحاجة وتفيض، مما جعل هناك من يصفها بالبركة، متناسين بأن التدبير وقلة الصرف على الكماليات غير الضرورية كان من أهم ما يميز تلك الفترة من الزمن، بل العجيب في الأمر أنه لم يكن هناك كماليات تذكر فجل الصرف كان على الأساسيات، إذ لم يكن هناك كماليات تجعل بعض الناس يتميز عن الآخر، ولم يكن هناك أجهزة اتصال متطورة، ولا أماكن للترفيه، أو أماكن تغري المتسوقين بما يعرض فيها من صرخات الموضة وغيرها من الكماليات التي لا تعد ولا تحصى، مما يطرح السؤال: كيف كانت الرواتب على قلتها في ذلك الزمن القريب تكفي الحاجة وتسدها بل وتزيد؟.

(صرف «أرزاق» مقابل النقد بداية عهد الملك عبدالعزيز ثم إصدار عملة نقدية في عهد الملك سعود)

وقديماً لم يكن الناس يعرفون معنى للرواتب، بل كان عملهم مرتبطا بالانجاز، فكلٌ يسعى لكسب رزقه إمّا بالفلاحة، أو بالأعمال البدنية الشاقة، وهم ما يطلق عليهم اسم “الحرفية”، الذين يعملون بأجر يومي في البناء أو الزراعة أو النجارة وغيرها، أو الرعي والاحتطاب، أو أي شيء يدر على صاحبه دخلاً يغنيه عن التذلل وسؤال الناس، وقليل من ينخرط في التجارة بمعناها البسيط في البيع والشراء في سوق البلدة، حيث يشتري بعض ما يجلب من البادية ك”السمن” و”الاقط” و”الماشية” و”الحطب” ويقايضه بالقهوة أوالتمر والبُر.

(فرحة تسلُّم أول راتب لا توصف.. والموظفون يتسلمون «الكاش» من «شنطة» المحاسب الحديدية).

كان الناس قديماً يتعاملون ب”الفرانسي”، الذي هو في الأساس عملة نمساوية، لكن طغى عليه هذا الاسم لدى العامة، كذلك كان هناك من يتعامل مع “البيزات”، واستمر الناس على هذا الحال حتى عم الخير وصدرت الريالات العربية من الفضة وتلاها الريالات الورقية في عهد الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه-.

ومع استتباب الأمن وتوحيد المملكة بدأ الناس يعرفون الوظائف الحكومية ويشقون طريقهم إليها وإن كانت شحيحة ومقصورة على رجالات الأمن وأمراء البلدان، ومع تقدم الزمن وظهور النفط بكميات تجارية وتصديره، بدأ الناس يعرفون الوظائف ذات الدخل الثابت في شركات النفط، ومن ثم في المصالح الحكومية التي فتحت أبوابها للجميع، وبذلك ودّع الناس سنين الشقاء واستبدلوها بسنين الرخاء التي عاشوها بعد ظهور النفط، حياة جديدة تكونت فيها الإدارات وسُنّت الأنظمة وتواصلت مسيرة التنمية، وفي البداية تراوحت الرواتب ما بين (70- 100) ريال، كانت توفر للمواطن كل احتياجاته، حتى وصلت الآن إلى مستويات عالية، حيث تصل إلى حسابات المواطنين البنكية برسالة: “تم إيداع المبلغ”.

بداية الرواتب:

من المعروف أن الرواتب انطلقت في عهد الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه-، ولعل أغلب الناس لا يعلمون بأن بداية الرواتب لم تكن بالنقد، بل بما كان يتوفر من الأرزاق ك”التمور” ب”الوزنة” وغيرها، حيث يقول “د.رشاد فرعون” -الطبيب والمستشار الخاص للملك عبدالعزيز- في مذكراته: “كانت رواتبنا تقدم لنا على هيئة حبّات من الحبحب البطيخ، ونذهب إلى السوق لبيعها ونحصل على المال”، تدرجت الرواتب بعد ذلك حتى صارت تصرف بالريالات، حيث أصدر الملك عبدالعزيز عام 1347ه أول نظام للنقد باسم نظام النقد الحجازي النجدي المسمى بالنقد العربي، وبذلك تم سك الريال العربي ونصفه وربعه من الفضة الخالصة، كما تم سك فئة القرش ونصفه وربعه من النحاس يساوي الريال العربي في الوزن والعيار والتقسيم والصرف الريال المجيدي، وأصبح الريال العربي وأقسامه عملة رسمية لمملكة الحجاز ونجد وملحقاتها اعتباراً من 24 يناير 1928م، ثم أعيد في عام 1936م إصدار الريال العربي وفئاته من الفضة بحجم أصغر من الإصدار السابق، نتيجة لارتفاع أسعار الفضة متأثرة بأزمة الاقتصاد العالمي، مع احتفاظ القرش وأقسامه بالأحجام السابقة، وحمل الإصدار الجديد اسم المملكة العربية السعودية بدلاً من مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها، ثم بدأ السحب التدريجي للإصدار السابق حتى تكامل في عام 1938م، وفي عام 1945م ألغي التعامل بالعملة النيكلية وسحبت من التداول.

عملة ورقية:

ولم ترَ العملة الورقية الرسمية النور إلاّ في عهد جلالة الملك سعود بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله-، فقد تم طرح أول إصدار نقدي ورقي رسمي بخمس فئات وهي فئة المئة ريال، والخمسين ريالاً، والعشرة ريالات، والخمسة ريالات، والريال الواحد بتاريخ 1/1/1381ه، وقد صدرت بموجب نظام النقد الصادر بالمرسوم الملكي رقم (6) الصادر في غرة رجب سنة 1379ه.

وبعد أن صدرت العملة السعودية كانت الرواتب بالريالات والقروش والهللات، حيث كانت الرواتب متواضعة، فعلى سبيل المثال فقد حملت إحدى الوثائق الصادرة من الملك عبدالعزيز والمحفوظة بدارة الملك عبدالعزيز بياناً لرواتب أمير بيشة آنذاك “سليمان بن جبرين” في عام 1353ه بمبلغ ألف وخمسمائة وثمانين ريال شهرياً، وجاء توزيعها طبقاً لخطاب الملك عبدالعزيز بقوله: “قد عرفنا مالية طرفكم بأن نسلمكم في كل شهر ألف وخمسمائة وثمانين ريالاً وتوضيحها ثلاثمائة ريال راتبكم خاصة، وخمسمائة لمخصص الضيافة والأرزاق، ومائة للعلف، وثلاثين للمطوع، وخمسين للكاتب وستمائة لأخوياكم ثلاثين نفر على عشرين ريال يكون معلوم ومؤرخة بتاريخ 22/ ربيع ثاني 1353 ه عبدالعزيز انتهى”، والملاحظ أن المقصود بالريال هو الريال العربي الفضة الذي كان يساوي (11) قرشاً أميرياً أو (22) قرشاَ سعودياً دارجاً وله أقسام هي نصف الريال وربعه، وسك في عهد الملك عبدالعزيز في عامي 1346 – 1348 ه ويمتاز بكبر حجمه.

فرحة الراتب:

كانت تقابل استلام الموظف لأول راتب يتقاضاه فرحة كبيرة، فقد يكون هو أول مبلغ يحصل عليه في حياته، وقد يحتار في كيف صرفه، فقد كان في شدة فاقة وحاجته إليه كبيرة، لذا تجده يقتطع منه لإعطاء والديه لحلول البركة، وربما تصدق بقليل منه اعترافاً لفضل الله عليه، ومن ثم يشتري ما يحتاجه من حاجيات وقد يفيض ويبقى منه حتى مطلع الراتب الثاني.

وعلى سبيل المثال يذكر أحد المعلمين الذي تعين في قرية منذ خمسة وخمسين عاماً أنه استلم أول راتب له بمقدار أربعمائة وأربعة وستين ريالاً، وهو مبلغ في ذلك الوقت كبير، حيث كان أول مربوط المرتبة الثامنة قبل إن يوضع سلم لرواتب المعلمين -حيث كان سلّم الوظائف مؤلف من تسع درجات كان أدناها المرتبة التاسعة وأعلاها المرتبة الأولى، وكان راتب الوزير آنذاك يعادل عشرة آلاف ريال-، ونظراً لكونه كان يعمل في قرية نائية فقد كان يأكل ويشرب شبه مجاناً، فقد كان يخرج بعد انتهاء الدوام ويصطاد من الطيور لغدائه وقبل المغرب يصطاد الأرانب للعشاء، ويشتري البيض الطازج من بعض نساء القرية، وكان جل ما يصرفه من نقود الراتب خمسة وثلاثين ريالاً في الشهر فقط، فهو عاجز عن إنفاق المبلغ في أي وجه فلا شيء متاحاً كي يشتريه، الأمر الذي جعله يحتفظ بالباقي ويدخره في منزله، حيث لم يكن هناك بنوك يودعها له كرصيد، ولم تمض سوى أشهر حتى جمع المهر الذي كان خمسة آلاف ريال دفعه لعروسه واستأجر داراً وكوّن أسرة خلال عامين من عمله، وصار يجمع كل ما يبقى من الراتب لدى زوجته، حتى أنه بعد عامين آخرين استطاع أن يشتري سيارة جديدة بقيمة ثمانية آلاف ريال، ولم يحتج إلى من يقرضه أي مبلغ.

استلام نقدي:

كان استلام الراتب قديماً يتم عن طريق التسليم باليد، حيث يأتي المحاسب وهو يحمل شنطته الحديدية أو من نوع “بكم”، فيلتف حوله الموظفون في فرح لمقدمه، ويبدأ صرف راتب كل موظف بعد أن يوقع أمام اسمه في مسير الرواتب، ويتنحى غير بعيد فيعدها مرات عديدة ليتأكد من صحة المبلغ ومن ثم ينصرف والفرحة تغمره، واستمر الموظفون في استلام رواتبهم على هذه الطريقة حتى انتشرت فروع البنوك في كل مدينة وقرية ومن ثم صار الموظف يستلم راتبه عن طريق الشيكات، حيث يأتي المحاسب بشيكات موقعة تحمل اسم كل موظفي الإدارة المراد تسليمهم رواتبهم، فيوقعون على مسير الرواتب، ويستلم كل موظف راتبه شيكاً، ومن ثم يراجع البنك ليصرف شيكه أو يودعه في حسابه، وقد كان الناس يحسون بلذة استلام الراتب، أمّا في وقتنا الحاضر فقد بات تسليم الرواتب عن طريق تحويله مباشرة في حساب كل موظف في البنك الذي يرغب دون عناء، ويرى البعض أنه بعد هذا الإجراء فقد تسليم الراتب لذته حيث صار ينزل في حسابه ويتوجه إلى آلة الصراف فيصرفه دون أن يحس بطعمه كما كان في السابق حينما كان يسلم باليد أو بالشيكات.

زيادات متلاحقة:

ظلت رواتب الموظفين لعدة أعوام على وضعها منذ إقرارها بمراتبها الجديدة منذ عام 1377 ه إلى أن جاء عهد الملك فيصل -رحمه الله- حيث صدر مرسوم ملكي يقضي بتغيير سلم الموظفين وزيادته بالمرسوم الملكي رقم 1 وتاريخ 1/ 1/ 1395ه، حيث ألغي سلم رواتب الموظفين القديم وحل محله سلم رواتب الموظفين الجديد، الذي شهد زيادات في جميع المراتب والدرجات، حيث قفز راتب الدرجة الأولى من المرتبة الأولى من (460) ريالا إلى (600) ريال، وراتب المرتبة الخامسة عشرة الدرجة الأولى من (5750) ريالا إلى (6610) ، وقد لاقت هذه الزيادة فرحة المواطنين وشكرهم وتقديرهم، وانعكست على حياتهم التي شهدت الخير والنفع العميم.

وبعد تقدم الزمن وغلاء المعيشة في ظل تنامي الاقتصاد العالمي وتغيراته جاءت الزيادة الثانية في عهد الملك خالد بن عبدالعزيز -رحمه الله-، وفي عهد الخير والنماء عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله-، والتي ضمنت تحسين مستوى المعيشة، فمنذ تولي الملك عبدالله بن عبدالعزيز سدة الحكم وهو يبذل قصارى جهده في سبيل رفع مستوى الدخل، وبالتالي تحسين مستوى المعيشة لكافة شرائح المجتمع وقد جاء ذلك على عدة مراحل متتالية تضمنت زيادة الرواتب بنسبة (١٥%) عام ١٤٢٦ه، ثم إقرار بدل غلاء معيشة بنسبة (١٥%)، ثم تثبيت تلك النسبة ضمن الراتب الأساسي عام 1432ه، كما تم رفع الحد الأدنى للأجور وتحديده ب(٣٠٠٠) ريال، وهذا انعكس على سلم رواتب الموظفين إيجاباً، كما تم دعم وزيادة مخصصات الضمان الاجتماعي أكثر من مرة ورفع رأسمال صندوق التنمية العقاري أكثر من مرة، إضافةً إلى رفع القرض إلى (٥٠٠) ألف ريال، وترسيم موظفي الدولة العاملين على بند الأجور والمستخدمين مرتين، المرة الأولى في ٢٥/٧/١٤٢٦ه والثانية في ٢٠/٤/١٤٣٢ه، وقد شمل ذلك أيضاً العاملين بالرواتب المقطوعة والذين يحملون مؤهلات علمية ويزاولون أعمالاً لا تتفق مع طبيعة الأعمال.

كماليات لا تنتهي:

ويعاني أغلب الموظفين من كثرة الإنفاق على الكماليات التي تأتي على الراتب كله قبل أن ينتهي الشهر، مما يجعلهم يحسّون بأن الراتب لا يكفي حاجتهم، الأمر الذي يجعلهم يلجؤون إلى الاقتراض من أجل سد نهمهم الشديد لهذه الكماليات، والحقيقة أن ذوي الدخول المرتفعة بالذات مجانبون للصواب، حيث إن صرف الراتب يجب أن يكون في الأساس لسد الحاجات الأساسية، ومن ثم النظر إلى الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها لفترة من الزمن، ومن ثم اقتناؤها، فلو عدنا إلى الوراء قليلاً لوجدنا أن الراتب يكفي الحاجة ويفيض وذلك لقلة الكماليات المتاحة في ذلك الزمن، فلم يكن هناك أجهزة اتصال متنقلة كالجوال وأجهزة التواصل الاجتماعي مثلاً والمتاحة لكل فرد من أفراد الأسرة التي صارت تقتطع جزءًا كبيراً من الدخل عن طريق تسديد فواتيرها المرهقة شهرياً، إضافة إلى الإسراف في مجال الترفيه وارتياد المطاعم بصفة دورية شبه منتظمة، وكذلك السفر والسياحة في الإجازات ولأكثر من مرة في العام، ونحن هنا لا ننكر غلاء المعيشة والذي تمر به كل دول العالم قاطبة، لكن نحن نناشد بمزيد من حسن التدبير الذي يضمن تقديم الأساسيات في كل شيء، ومن ثم الاتجاه إلى الإنفاق على الكماليات، ولو أعدّ كل شخص لنفسه برنامجاً يرتب فيه عمليات مصروفاته الشهرية، ويستقطع من راتبه مبلغاً معيناً في كل شهر ولو كان يسيراً ويدخره، لوجده حاضراً في نهاية العام لكل أزمة مالية تحل به، مما يجعله يغطي احتياجاته ويفيض.


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com