الخوارج والولوغ في الدماء


الخوارج والولوغ في الدماء


لقد ابتليت الأمة مع بدء زمنها الأول بطائفة منحرفة ضالة ، كان خروجها شؤماً على أمة الإسلام ، حيث سالت بسببها أنهار من الدماء المسلمة التي حرّم الإسلام الاعتداء عليها بغير حق .
وهذه البدعة من شر البدع التي ابتليت بها الأمة ؛ لأن ظاهر أصحابها التمسك بالدين مما قد يوهم الكثير من الناس فيحسبون أنهم من أهل الحق ، وهم دعاة على أبواب جهنم .. يخوضون في الدين بجهل ، فجعلوا ما ليس بسيئة سيئة، وما ليس بحسنة حسنة، و حكموا على المسلمين بالكفر بما رأوه ذنباً ، وعاملوهم معاملة الكفار، فاستحلوا بذلك دماءهم وأعراضهم وأموالهم..
ولعظم خطر هذه الطائفة فقد نزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخبره بخطرها وما ستجره على الإسلام من ويلات ونكبات ، وذكر له صفات أربابها ودعاتها ، وسأذكر ماجاء من أحاديث في صفاتهم وفتنتهم .
لقد بدأت فتنة الخوارج حين تطاول مؤسسها الأول على الرسول الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فقد جيء بالغنائم إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزوة حنين فقسمها صلى الله عليه وسلم وقد فضل أناسا من أمراء القبائل في الأعطيات من أجل مصلحة عظيمة رآها صلى الله عليه وسلم وهي
تأليفهم على الإسلام ، فجاءه رجل ناتئُ الجبهة عريضُ الوجنتين فقال له :” اعدل يا محمد فإنك لم تعدل” ، وفي لفظ قال: ( إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله) ،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء.؟!” ؛وقال صلى الله عليه وسلم: “فمن يعدل إن لم أعدل؟؛خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل”؛ فقال عمر رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ،فقال : دعه؛ فلما ولى مدبرا قال صلى الله عليه وسلم : ” إن من ضئضىء هذا، ( يعني من أصله ) قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ( أي:يقرؤونه من غير فقه ) يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ؛( أي :كما يأتي السهم فيضرب الطائر من مكان فيخرج من مكان آخر لا يأخذ من دمه ولا من ريشه شيئا؛وهذا دليل على قلة نصيبهم من الإسلام )، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد” ) أي: قتلا مستأصلا كما قال الله سبحانه وتعالى: فهل ترى لهم من باقية ).
فطعن هذا الخبيث على رسول الله صلى عليه وعلى آله وسلم بزعم العدل والإنصاف في توزيع الثروة ، وهذه الذريعة لازال يستخدمها بعض المعاصرين ممن هم على منهجهم ، فدعواهم واحدة !! قاتلهم الله في كل زمان ومكان ! ، فإذا كان زعيمهم ورأسهم في الفتنة طعن في عدالة رسول الله ، فلا غرابة أن يطعن أتباعه في عدالة من بعده من حكام المسلمين .
ثم كان خروجهم الأول كتجمع في زمن عثمان رضي الله عنه ، حين أنكر بعض أهل العراق سيرة بعض أقارب عثمان فطعنوا على عثمان رضي الله عنه بذلك ، وكان يقال لهم القراء لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة ، إلا أنهم كانوا يتأولون القرآن على غير المراد منه ، ويستبدون برأيهم ، ويتنطعون في الزهد والخشوع
وغير ذلك ، ولكنهم أثاروا فتنة عظيمة في زمن عثمان رضي الله عنه ، فاجتمعوا من بلاد عديدة ، حتى دخلوا المدينة ، وقتلوا خليفة المسلمين عثمان رضي الله عنه والمصحفُ في يده ،يتقربون لله بقتله ـ عليهم لعنة الله ـ حتى ركب خارجي على صدره وطعنه بتسع طعنات ؛ ثم قال: أما ثلاث فلله ، وأما ستٌّ فلشيءٍ في نفسي عليه.
ثم بعد مقتل عثمان رضي الله عنه اعتقدوا إمامة علي رضي الله عنه ، ولكن لما حدثت معركة صفين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ، وعندما اتفق الطرفان على وقف القتال واللجوء إلى التحكيم، ثارت حفيظة الخوارج، و اعتبروا التحكيم نوعا من الحكم بغير ما أنزل الله، فاعتزلوا علياً بل كفروه وتبرؤا منه، وتجمعوا – وكانوا ثمانية آلاف أو نحو ذلك – في مكان يقال له : حروراء ومن ثم قيل لهم : الحرورية، فأرسل إليهم عليٌ ابنَ عباس فناظرهم فرجع كثير منهم معه، ثم خرج إليهم علي رضي الله عنه فأطاعوه ودخلوا معه الكوفة .
ثم أشاعوا أن علياً تاب من التحكيم ، ولذلك رجعوا معه، فبلغ ذلك علياً فخطب، وأنكر ذلك، فتنادوا من جوانب المسجد : ” لا حكم إلا لله “، فقال علي رضي الله عنه : ” كلمة حق يراد بها باطل”، ثم قال لهم : ” لكم علينا ثلاثة : أن لا نمنعكم من المساجد، ولا من رزقكم من الفيء، ولا نبدؤكم بقتال ما لم تحدثوا فسادا ” . إلا أن الخوارج لم يرضوا ، فخرجوا إلى المدائن فكتب إليهم علي رضي الله عنه طالبا منهم الرجوع إلى جماعة المسلمين، فأصروا على الامتناع، حتى يشهد على نفسه بالكفر، لرضاه بالتحكيم، ويتوب . ثم بعث إليهم رسوله فأرادوا قتله، ثم اجمعوا على أن من لا يعتقد معتقدهم يكفر، ويباح دمه وماله وأهله، وصدَّقوا القول بالعمل، فامتحنوا الناس في قبول أفكارهم فمن قبلها وتابعهم سَلِمَ ، ومن ردَّها قُتِل، ومرَّ بهم عبد الله بن خباب بن الأرت ابنُ صاحب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكان والياً لعلي على بعض تلك البلاد ومعه أمَتُه – وهي حامل – فقتلوه وبقروا بطن أمَتِه، وصدق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي قال فيهم : ” يقتلون أهل الإسلام ويَدَعُون أهل الأوثان ” .
فبلغ صنيعهم علياً ، فخرج إليهم في جيش كان قد هيَّأه للخروج إلى الشام، فأوقع بهم بالنهروان، ولم ينج منهم إلا القليل .
فبقوا مختفين في خلافة علي حتى تمكن منهم رجل يقال له عبد الرحمن بن ملجم من قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد أن دخل على عليٍّ في صلاة الصبح فضربه بالسيف على رأسه ، فسال دمه على لحيته رضي الله عنه ، ولما ضربه ابن ملجم قال : لاحكم إلا لله ليس لك يا علي ولا لأصحابك ، وجعل يتلو قولَه تعالى : ” وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ” . يتقرب ـ عليه لعنة الله ـ بقتل أمير المؤمنين وابنِ عمِّ رسول الله ، وزوج ابنته فاطمة رضي الله عنها !! ، وهو رضي الله عنه من العشرة المبشرين بالجنة. ورغم هذه الخسارة الكبيرة والمقتلة العظيمة التي أوقعها بهم علي رضي الله عنه إلا أن هذه الشجرة الخبيثة لم تجتث من أصلها ، وإنما بقيت لها فروع انتشرت في البلاد الإسلامية داعية إلى مذهبها الخبيث ، ناشرة الفتن في بلاد المسلمين إلى يومنا هذا .
ولقد حذّر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم منهم أشد التحذير في أحاديث كثيرة ، بل (لم يرد في السنة النبوية من الأحاديث المحذرة والمبينة لفرقة من الفرق مثلما ورد في الخوارج، إذ تواترت الأحاديث الواردة فيهم مبينةً صفاتهم ومحذرةً من أفكارهم ومواقفهم . وذلك لما تمثله هذه الفرقة من خطر فكري وخطر مادي على أمة الإسلام . فخطرها الفكري يتمثل في سقم منهجها في التعامل مع النصوص، وما يستتبع ذلك من فهوم خاطئة تقوم عليها سلوكياتٌ غايةٌ في البشاعة، وليس هذا فحسب بل إن اتصاف هؤلاء الخوارج بصفات التعبد والتأله، من كثرة الصيام والصلاة وقراءة القرآن ربما يغري بعض الناس فيحسنوا الظن بهم إحسانا يدفعهم إلى اعتقاد صحة أفكارهم وأعمالهم، لذلك كان اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم ببيان شأنهم وحالهم تنبيها للأمة ورحمة بها لئلا تنزلق في حومة أفكارهم وسوء فعالهم ) .
وسأذكر لكم صفات الخوارج التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، حتى تكونوا منهم على بينة :
ـ فمن صفاتهم : قلة الفهم وسطحية التفكير : وهذا سببُ انحرافهم الأكبر أنهم قرؤوا القرآن ولم يفقهوا معانيه ومقاصدَه، فضلوا وأضلوا ، يقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ” يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ) ، وهذا دليل على ضعف فهمهم ، وقلة فقههم ، إذ لو كانوا فقهاء لجاوز القرآن حناجرهم إلى عقولهم، ولو فهموه لبان أثره على جوارحهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ( وكانت البدع الأولى مثل بدعة الخوارج إنما هي من سوء فهمهم للقرآن ، لم يقصدوا معارضته ؛ لكن فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب إذ كان المؤمن هو البر التقي؛ قالوا : فمن لم يكن براً تقياً فهو كافر، وهو مخلد في النار ) ـ مجموع الفتاوى 13/30ـ.
ولسطحية تفكيرهم وصفهم الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بسفاهة الأحلام ، فقال عليه الصلاة والسلام : ” يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من خير قولِ البرية ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، لايُجاوز إيمانُهم حناجرَهم ، فأينما لقيتُموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يومَ القيامة ” .
ولتفاهة عقولهم :أنهم نزلوا الآيات الواردة في الكفار على المسلمين ، فكفّروا بذلك المسلمين ، فعن ابن عمر أنه قال في صفة الخوارج:(انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين ) قال ابن حجر: سنده صحيح .
ـ ومن صفاتهم : التكفير بالكبيرة : وهذه صفة بارزة في الخوارج القدامى والمعاصرين .
ـ ومن صفاتهم : تكفير من خالفهم : قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( والخوارج هم أول من كفر المسلمين، يكفرون بالذنوب، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم ، ويستحلون دمه وما له، وهذه حال أهل البدع: يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم فيها، وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة ويطيعون الله ورسوله فيتبعون الحق ويرحمون الخلق ) مجموع الفتاوى 3/279 .
ـ ومن صفاتهم : استحلال قتل المسلمين :فهم حريصون على قتل أهل الإسلام ، متساهلون في قتل المشركين ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : ” يقتلون أهل الإسلام ، ويدعون أهل الأوثان ” . وهذا واضح في قتلهم عثمان وعلي وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، بالإضافة إلى الملايين من المسلمين الذي اكتووا بنارهم .
وهاهم الخوارج المعاصرون يقيمون في بلاد المشركين ، ويدعون من هناك إلى إحراق بلاد المسلمين ، فكم سمعنا وقرأنا من كلماتهم الملطخة بدماء المسلمين التي أصبحت وقوداً لأتباعهم الأغبياء الذين ينفذون وصاياهم في الفتك بالمسلمين .. تفجير وقتل وتدمير .. إلى آخر أفعالهم الشنيعة.
ـ ومن صفاتهم : إحسان القول مع إساءة العمل : ففي صفتهم في الحديث أنهم : “يقولون من خير قول البرية”.
قال ابن حجر: ( يحتمل أن يكون على ظاهره: والمراد القول الحسن في الظاهر وباطنه على خلاف ذلك؛ كقولهم: لا حكم إلا لله. في جواب علي كما سيأتي، وقد وقع في رواية طارق بن زياد عند الطبري قال: خرجنا مع علي، فذكر الحديث وفيه: يخرج قوم يتكلمون كلمة حق لا تجاوز حلوقهم. وفي حديث أنس، عن أبي سعيد، عند أبي داود والطبراني: يحسنون القول ويسيئون الفعل، ونحوه في حديث عبد الله بن عمر عند أحمد، وفي حديث مسلم عن علي: يقولون الحق لا يجاوز هذا وأشار إلى حلقه ) .
قال تعالى: ” أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ” .
ـ ومن صفاتهم : المبالغة في مسألة الحاكمية : فالخوارج الأولون رفعوا شعار ( لاحكم إلا لله ) وجعلوا هذا الشعار تكية خدعوا بها السذج من العامة ، فكفروا علياً رضي الله عنه بزعم أنه حَكَم بغير ماأنزل الله ، فقال لهم عليٌ : ” كلمة حق أريد بها باطل ” . وهاهم الخوارج المعاصرون يرفعون نفس الشعار في مسألة الحاكمية ويكفرون حكام المسلمين جميعاً لايستثنون منهم أحداً .
ـ ومن صفاتهم : خروجهم على الحاكم المسلم : ولذلك خرجوا على عثمان وعلي ومن بعدهما من خلفاء المسلمين وأئمتهم . قال الإمام الآجري في كتابه ” الشريعة ” ( 1/326) : ( الخوارج يتوارثون هذا المذهب قديماً وحديثاً ، ويخرجون على الأئمة والأمراء ، ويستحلون قتل المسلمين ) .
ـ ومن صفاتهم : خروجهم على علماء المسلمين ورميهم بالتهم الكثيرة ؛ كالمداهنة والعمالة إلى آخر قاموسهم البذيء .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( فهؤلاء أصل ضلالهم اعتقادهم في أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل،وأنهم ضالون وهذا مأخذ الخارجين عن السنة من الرافضة ونحوهم، ثم يعدون ما يرون أنه ظلم عندهم كفراً، ثم يرتبون على الكفر أحكاماً ابتدعوها، فهذه ثلاث مقامات للمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم، في كل مقام تركوا بعض أصول دين الإسلام حتى مرقوا منه كما مرق السهم من الرمية ) .
فإذا رأيتم إنساناً يطعن في العلماء فاعلموا أنه على ضلال عظيم .
ـ ومن صفاتهم : تشددهم وتنطعهم في الدين : سواء كان هذا التشدد في العبادة ، أو في الفكر ؛ فلا يقبلون إلا رأيهم ولاصواب إلا ما يرونه .
إلى غير ذلك من الصفات التي لايسمح المجال لذكرها جميعاً .
ولقد أنعم الله سبحانه وتعالى على العالم عموماً والجزيرة العربية خصوصاً بدعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه ، فأعز الله بدعوته هذه البلاد التي تبنت دعوة الإمام فناصرتها وآزرتها ، ولم يكن معروفاً لدى أبناء هذه البلاد سوى هذه الدعوة المباركة التي يشب عليها الصغير ويهرم عليها الكبير ، حتى بدأت ـ قبل عدة عقود ـ تتسرب إلى هذه البلاد بعض الأفكار الهدامة والمناهج الفاسدة ، التي خُدع بها بعض أبناء بلادنا ، لأن ظاهرها الغيرة على الدين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى

[COLOR=darkred]الشيخ سعود بن ملوح
جامعة الحدود الشمالية[/COLOR]


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com