التكفيريون والتعسف في تأويل النصوص


التكفيريون والتعسف في تأويل النصوص



[ALIGN=CENTER][COLOR=red]التكفيريون والتعسف في تأويل النصوص[/COLOR]
لقد دأب البعض على التمويه على عامة الناس ، بالاستدلال أفعالهم السيئة بالأدلة الشرعية ، ومن ثم يوجهونها بما يوافق ضلالهم وأهواءهم ، وهذه عادة أهل البدع ، أنهم يستدلون بعمومات الأدلة الشرعية ، لتأييد باطلهم ، ومن الأمثلة على ذلك : استدلال خوارج العصر بحديث : (( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب )) ، وزعمهم أنهم يسعون لتطبيق هذا الأمر النبوي ، الذي لم تطبقه المملكة العربية السعودية ـ بزعمهم الباطل وفهم العاطل ـ ، فَنتجَ عن هَذا الفهْمِ السَّقيمِ والتأويلِ العَقيمِ وُلوجهم في نفقٍ مُظلمٍ ، فَجنوا على أنفسِهم وعلى مجتمعهم وأمَّتهم ، وهذا مَكْمنُ الخطورةِ حينَ يَستقلّ المرءُ بفهمهِ لأحاديثِ رسولِ الله  دونَ أن يرجعَ إلى مادوّنهُ علماؤنا من شروحاتٍ لأحاديثِ رسولِ الله  .
فتعالوا بنا ننظر كيف فهم العلماء هذا الحديث :
أولاً : مراد الرسول صلى الله عليه وسلم بـ (( جزيرة العرب )) في قوله : (( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب )) :
المتتبع لروايات هذا الحديث يظهر له جلياً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بإخراج المشركين من جزيرة العرب عامة ، وإنما أراد الحجاز خاصة ، حيث إن بها مولده  ومنشؤه ومبعث رسالته ومستقر دينه ومهاجر رسوله  ، وهي أفضل البقاع ؛ لأن فيها الحرم وبيت الله تعالى ومسجد رسوله  .
ويدل لهذا أمور :
الأول : قوله : (( أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب .. )) .
وإنما أخرج يهود نجران ـ وإن لم تكن من الحجاز ـ ؛ لأنهم نقضوا العهد الذي أخذه عليهم الرسول  بأن لا يتعاملوا بالربا ، فتعاملوا به ونقضوا العهد ، فلذلك أجلاهم عمر رضي الله عنه .
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام(ت:224هـ ) : ( وإنما نرى عمر استجاز إخراج أهل نجران ـ وهم أهل صلح ـ لحديث يروى عن النبي  فيهم خاصة ؛ يحدثونه عن إبراهيم بن ميمون مولى آل سمرة عن أبن سمرة عن أبي عبيدة عن النبي  أنه كان آخر ما تكلم به أن قال : (( أخرجوا اليهود من الحجاز ، وأخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب )).
قال أبو عبيد : وإنما نراه قال ذلك لنكثٍ كان منهم ، أو لأمر أحدثوه بعد الصلح ، وذلك بيّن في كتابٍ كتبه عمر إليهم قبل إجلائه إياهم .. ) .
الثاني : إقرار النبي  ليهود اليمن بالبقاء فيها ـ وهي من جزيرة العرب ـ فقد قال  لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : (( خذ من كل حالمٍ ـ يعني محتلم ـ ديناراً )) .
الثالث : أن النبي  أقر أهل خيبر بها إلى أن توفي  ، وهي من جزيرة العرب .
قال الحافظ ابن حجر : ( وقد أقرّ النبي  يهود خيبر على أن يعملوا في الأرض كما تقدم ، واستمروا إلى أن أجلاهم عمر … ) .
الرابع : أن النبي  أخذ الجزية من مجوس هجر . وهي من مدن البحرين ، وهي من جزيرة العرب .
الخامس : فعل الخلفاء الراشدين : وهم القوم لا يشقى من اقتدى بهم ؛ قال  : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين من بعدي ، تمسكوا بها ، وعَضُّوا عليها بالنواجذ .. )) .
أ ـ فأبو بكر رضي الله عنه أجلى قوماً من اليهود من الحجاز ، فلحقوا بخيبر وأقرهم فيها ، وهي تبعد عن المدينة بنحو 180كيلو متر ، وهي من جزيرة العرب .
ب ـ وعمر رضي الله عنه أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز إلى تيماء ، وهي من جزيرة العرب ، وأجلاهم أيضاً إلى الشام والكوفة ، وهما من جزيرة العرب على بعض الأقوال .
ج ـ لم ينقل عن أحد من الخلفاء أنهم أجلوا اليهود الذين كانوا في اليمن ، وهي من جزيرة العرب ، وهم باقون إلى يومنا هذا .
قال الإمام العيني الحنفي ( ت : 855هـ ) : ( ولم ينقل عن أحد من الخلفاء أنه أجلاهم من اليمن مع أنها من جزيرة العرب ).
وقال الإمام الدميري الشافعي (ت:808هـ ) : ( ولم ينقل أن أحداً من الخلفاء أجلاهم من اليمن مع أنها من جزيرة العرب ، فدل على المراد : الحجاز فقط ) .
أقول : والخلفاء الراشدون أعلم بمقصده  من أمره بإخراج المشركين من جزيرة العرب ، وأنه إنما قصد إخراجهم من أرض الحجاز فقط ، ومنعهم من الاستيطان والتملك فيها ؛ لما اختصت به أرضه دون غيرها ، أما بقية جزيرة العرب فلا يمنعون من الاستيطان فيها ، كما هو حال أهل اليمن والبحرين وتيماء وغيرها .
وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن المقصود بجزيرة العرب في هذا الحديث الحجاز خاصة ، قال الإمام الشافعي : ( جزيرة العرب التي أخرج عمر رضي الله عنه اليهود والنصارى منها : مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها ، فأما اليمن فليس من جزيرة العرب ) ، وقال أيضاً : ( ولم أعلم أحداً أجلى أحداً من أهل الذمة من اليمن ، وقد كانت بها ذمة ، وليست بحجاز ، فلا يجليهم أحد من اليمن ، ولا بأس أن يصالحهم على مقامهم باليمن ، فأما سائر البلدان ما خلا الحجاز ، فلا بأس أن يصالحوا على المقام بها ) .
وقال الإمام الغزالي الشافعي ( ت : 505هـ ) : ( .. ونعني بجزيرة العرب : مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها والطائف ووج .. ) .
وقال الخطيب الشربيني ( ت : 676هـ ) : ( المراد من الجزيرة في الأحاديث : الحجاز ، ولم يرد جميع الجزيرة ؛ لأن عمر أجلاهم من الحجاز وأقرهم على اليمن مع أنه من جزيرة العرب ) .
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي : ( وقال أحمد : جزيرة العرب : المدينة وما والاها ، يعني أن الممنوع من سكنى الكفار : المدينة وما والاها ، وهو مكة واليمامة وخيبر وينبع وفدك ومخاليفها وما والاها ) .
واختار هذا القول عدد من العلماء المحققين ، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية ، كما في (( مجموع الفتاوى )) ( 28/630 ) ، وابن القيم كما في (( أحكام أهل الذمة ))( 1/393 )، والحافظ ابن حجر كما في (( فتح الباري )) ( 6/198 ) .
ثانياً : ما الذي يمنع منه الكفار من أرض الحجاز ؟
بعد أن تقرر لدينا أن المقصود بجزيرة العرب : الحجاز خاصة ، يثور في الذهن سؤالان: إذا كان هذا هو المقصود بجزيرة العرب ، وقد أمر النبي  بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب ، فلماذا أَذِنَ الصحابةُ ببقاء الرقيق من الكفار في المدينة النبوية مثلاً ؟ ولماذا أَذِنَ عمر وعثمان رضي الله عنهما والخلفاء من بعدهما للتجار من غير المسلمين بممارسة التجارة في أرض الحجاز ؟
وللإجابة عن ذلك أقول :
المقصود بقوله  : (( أخرجوا المشركين … )) منعهم من الاستيطان ( الاستيطان : اتخاذ المكان وطناً) في أرض الحجاز ، بحيث يكون لهم أملاك وإقامة دائمة ، وهذا موطن اتفاق بين العلماء .
قال الإمام الشافعي في تفسير قوله النبي  (( لا يترك بجزيرة العرب دينان )) قال : (لا يبقين دينان مقيمان ) .
وقال أيضاً : ( فأما الرسل ومن ارتاد الإسلام فلا يمنعون الحجاز ؛ لأن الله عز وجل يقول لنبيه  : (( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه )) .
وقال الغمراوي الشافعي : ( ويمنع كل كافر من استيطان الحجاز ، سواء كان بجزية أم لا، والمراد من الاستيطان الإقامة ، وهو ـ أي الحجاز ـ مكة والمدينة واليمامة ) .
وقال ابن قدامة : ( ويجوز لهم دخول الحجاز للتجارة ؛ لأن النصارى كانوا يتّجرون إلى المدينة في زمن عمر رضي الله عنه …) .
وقال أيضاً : ( ويجوز تمكينهم من دخول الحجاز لغير إقامة ؛ لأنهم كانوا يدخلونه في زمن عمر وعثمان والخلفاء بعدهم ، ولا يجوز دخولهم إلا بإذن الإمام لأن دخولهم إنما أجيز لحاجة المسلمين فوقف على رأي الإمام كدخول الحربي دار الإسلام أذن له لما فيه من المصلحة ) .
وقال الإمام العيني : ( يمنع كل كافر عندنا وعند مالك من استيطان الحجاز .. ) .
وقال ابن القطان الفاسيُّ المالكي ( ت :628هـ ) : ( واتفقوا أن لأهل الذمة المشي في أرض الإسلام ، والدخول حيث ما أحبوا من البلاد حاشا الحرم كله بمكة ، فإنهم اختلفوا هل يدخلونه أم لا ؟ ) .
وقال الشيخ محمد ابن عثيمين (ت : 1421هـ ) : ( أما قوله  : (( لا يجتمع في جزيرة العرب دينان )) ، فالمعنى : لاتقام شعائر الكفر في جزيرة العرب .
يعني ـ مثلاً ـ لاتُبْنَى الكنائس ، ولا ينادى فيها بالناقوس وما أشبه ذلك .
وليس المعنى أنه لايتديّن أحدٌ من الناس في نفسه . بل المراد : أنه لا يكون لهم كنائس أو معابد أو بِيَع كما للمسلمين مساجد .
وأما قوله (( لأخرجنّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب )) : فالمراد منها : السكنى ، وأما الأُجَرَاءُ وما أشبه ذلك ، فلا يدخلون في هذا ؛ لأنهم ليسوا قاطنين ، بل سيخرجون .
وعلى هذا يتقرر أنه لا بأس من دخول الكفارِ الحجازَ ـ حاشا الحرم المكي ـ لحاجة ؛ كتجارة ونحو ذلك ، إذا أذن الإمام أو نائبه لهم بذلك ، وكان في ذلك مصلحة للمسلمين ، وتخضع مدة إقامتهم لما يرى ولي الأمر أنه يحقق مصلحة ؛ لأنه أعلم بمصلحة المسلمين .
وقد فهم الصحابة رضي الله عنه هذا الأمر ؛ فهذا عمر رضي الله عنه ـ وهو من هو في شدته في دين الله ـ قد أذن بدخول الرقيق من الكفار إلى المدينة النبوية ؛ لأنهم تبع لأسيادهم ، فلن يكون لهم أملاك في المدينـة ،
فياترى ! هل ترك عمر رضي الله عنه هؤلاء العلوج مجاملة للعباس وابنه ؟! حاشا وكلا ، ولا أعتقد أن أحداً ـ مهما بلغ جهله ـ يقول ذلك . ولا يغيب عن أذهاننا أن عمر رضي الله عنه هو أحد رواة الحديث الوارد في الأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب ، فهل فرّط عمر رضي الله عنه في تنفيذ أمر النبي  !! حاشاه رضي الله عنه !
أقول : ولو سلمنا ـ تنزلاً ـ أن مراد الرسول  من قوله (( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب )) منعهم من جميع الحدود الجغرافية لجزيرة العرب ، لكنَّ ذلك لايعني منعهم من دخول الجزيرة العربية بغرض التجارة أو الزيارة أو العمل لدى الدول الإسلامية بما يخدم مصلحة المسلمين ، خاصة ونحن نعلم مدى ما وصل إليه الكفار من تقدم علمي هائل جعلنا بحاجة إلى علمهم الدنيوي ، وغير ذلك من الأغراض المشروعة ، وقد سبق أن أوردت نبذاً من كلام العلماء في جواز دخول غير المسلمين الجزيرة العربية ـ أعني الحجاز ـ لغير غرض الاستيطان والإقامة الدائمة .
وقد خالف بعض الذين لم يستنيروا بنور العلم ولم يلجأوا فيه إلى ركن شديد كلامَ العلماء في هذا ، فقالوا بمنع غير المسلمين من دخول الجزيرة العربية لأي غرض من الأغراض ، فشذوا بهذا القول عن أقوال جميع الأئمة .
والحقيقة أن هؤلاء المتأولين لم يكتفوا بتغيير معنى هذا الحديث ، بل قاموا بتغيير مبناه بتصرفاتهم التي شاهدها الجميع ، حيث أصبح نص الحديث عندهم ـ من واقع تطبيقهم الفعلي لهذا الحديث حسب فهمهم ـ :
(( اقتلوا المشركين في جزيرة العرب )) ! بدلاً من : (( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب )) !!!
فغيروا دلالة منطوقه كما غيروا دلالة مفهومه !
فهل يلزم من الأمر بإخراج المشركين من جزيرة العرب إباحة قتلهم ؟! هل قال بهذا أحد من علماء الأمة !!
ولو فرضنا ـ جدلاً وتنزلاً ـ أن جميع الكفار الذين يدخلون الجزيرة العربية حربيون ، فهل يجوز قتلهم مع إعطائهم الأمان من قِبَل حاكم البلاد ؟
لن أجيب أنا عن هذا السؤال ، بل سأترك الجواب لإمامٍ قد أطبقت الدنيا على فضله وإمامته ، إنه الإمام المبجل أحمد بن حنبل إمام أهل السنة ، فقد قال عليه رحمة الله : ( إذا أُشير إليه ـ أي الكافر الحربي ـ بشيء غير الأمان فظنه أماناً فهو أمان ، وكل شيء يرى العلج أنه أمان فهو أمان .
وقال : إذا اشتراه ليقتله ، فلا يقتله ؛ لأنه إذا اشتراه فقد أمَّنه .
قال الشيخ تقي الدين (ابن تيمية ) فهذا يقتضي انعقاده بما يعتقده العلج وإن لم يقصده المسلم ولا صدر منه ما يدل عليه ) .
أقول : فتأمل في قول الإمام : ( بشيء غير الأمان فظنه أماناً ) ، فكيف لو أعطاه الإمام الأمان صراحة ! فكيف إذا كان هذا الأمان بموجب اتفاقيات دولية !!
ثم إن الأمان يجوز أن يُعطى للكافر من أي فرد من أفراد المسلمين ، فكيف إذا أُعطي الأمان للكافر من قِبل إمام المسلمين وحاكمهم !!
وتأمل في قوله (إذا اشتراه ليقتله ، فلا يقتله ؛ لأنه إذا اشتراه فقد أمَّنه ) ، أقول : فهذا هو ديننا ، وهؤلاء هم أئمتنا !
أليس الذي يزعمون تنفيذ أمره بإخراج المشركين من جزيرة العرب هو الذي قال: ” مَنْ قَتَلَ مُعَاهِداً لم يَرَحْ رَائحةَ الجَنَّةِ ” ؟
فإنها لا تعمى الأبصار ، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور !
ولقد نص كثير من العلماء على أن الأمر بإخراج المشركين من جزيرة العرب مقيّد بعدم الحاجة إليهم ، ونحن نعلم مدى حاجتنا اليوم إلى ما يتقنونه من أعمال لا يتقنها غيرهم من أبناء المسلمين ، وقد أذن النبي  لليهود بالإقامة بخيبر لغرض الفلاحة ؛ لانشغال الصحابة عن ذلك بالجهاد ، واستمر الأمر على هذا في خلافة أبي بكر ثم صدراً من خلافة عمر ، إلى أن كثر عدد المسلمين في عهده رضي الله عنه ، واشتغلوا بالفلاحة ، فأجلاهم عمر رضي الله عنه إلى الشام .
وأخيراً أقول : مما سبق تقريره يتضح لنا أن من قال بإخراج المشركين من جزيرة العرب بحدودها الجغرافية المعروفة ، وعدم السماح ببقائهم لأي سبب من الأسباب مخالف لما قرره علماء الإسلام عبر القرون ، ومتبع لهواه ، ومجانب لسبيل المؤمنين .
ومن هنا نعلم خطورة استقلال الإنسان بفهمه للنصوص الشرعية دون رجوع إلى فهم السلف الصالح.
وأسأل الله تعالى أن يهدي ضال المسلمين ، وأن يزيدنا بصيرة في ديننا ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

[COLOR=red]الشيخ سعود بن ملوح العنزي[/COLOR]
المحاضر بجامعة الحدود الشمالية
[/ALIGN]


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com