الاحتراف .. سبيل التقدم


الاحتراف .. سبيل التقدم



الاحتراف .. سبيل التقدم

لا نقصد بالاحتراف هنا ما يدور حوله الجدل من احتراف لاعبي كرة القدم في الملاعب العالمية وإن كان احترافهم جزء من موضوعنا الأشمل وهو احتراف من يؤدي وظيفة أو مهنة لوظيفته أو لمهنته ، بمعنى أن يكون متخصصاً في مجاله بالغاً درجة الإتقان أو البحث والتطوير والإبداع ولن يكون هذا ممكنا للجميع ولكن للشريحة الأكبر من الفنيين والحرفيين والمهندسين والتنفيذيين ، ولعل من المفيد هنا أن نبدأ بسند من الهدي القويم كقول النبي صلي الله عليه وسلم ” إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه ” والعمل هنا يشمل كل أنواع الأعمال والمهن اليدوية منها والفكرية ، الميدانية التي تحتاج إلى جهد ومساحة والذهنية التي لا تحتاج إلى أكثر من قلم ومكتب مرورًا بمختلف الحرف والأعمال وهذا ما يعطي الإتقان صفة محببة في الدين هي أقرب إلى الطاعة .
الاحتراف هو المتطلب الأول والأولى للإتقان فالفرق ـ مثلاً ـ بين المعلم وبين المعلم المحترف أن الأول يؤدي الحد الأدنى أو المعقول من متطلبات التعليم ، يمارس العمل في وقته ثم يخرج منه قلبا وقالبا حين تنتهي ساعاته ، أما المحترف فيقرأ ويبحث في وسائل التعلم والتعليم من حيث الحالة العامة ومن حيث حالته وحالة تلاميذه الخاصة ، يجتهد في إيجاد أفضل السبل والوسائل فيجرب مرة ويعيد أخرى وكثيراً ما تجده منشغلا بضرورات مهنته خارج وقت العمل ، هكذا سيتقدم المحترف مع البحث والتطوير والتجربة والإعادة وسيتأخر الآخر بحكم أن كل مالا يزيد ينقص حتما .
لنتصور مهندسي تصاميم صناعية يقف أحدهما عند حدود الوظيفة ويكتفي بما تعلمه في قاعة الدرس ، يؤدي ما يطلب منه بحده الأدنى ويقوم أوكل إليه لكنه لا يبدع ولا يتقدم ، وآخر دائب البحث للارتقاء بعلمــه وإنتاجه وليضيف من خلال البحث والتجربة ما ينفع عمله ويزيد من خبرته .
نؤكد هنا على البحث والتجربة لأن كثيرا من المحترفين من العلماء والفنيين والباحثين رواد لم يسبقهم أحد إلى ما يحاولون فهُم رأس الحربة في مجال صنائعهم ووظائفهم ولا يلزم للمكتشف أو المخترع أو المبدع أن يحمل شهادة عليا فالشهادة وحدها لا تقدم شيئا ، أنما التخصص الدقيق والصبر والمثابرة والتضحية بالوقت والمال سيؤدي حتما إلى المعرفة الإحترافية التي تتميز عن المعرفة المعتادة من حيث الشمول والعمق ، ولك أن تتصور حال مهندسي التصاميم السالف ذكرهما وكم سيكون الفارق بينهما بعد حين ؟
للحقيقة فإن مفهوم الاحتراف ووفــرة المحترفين المتخصصين هو ما ميز البلاد المتقدمة صناعياً وحضارياً ، ميزّها وقدمها أكثر بمراحل من بلاد الموارد الطبيعية ، ما هي الموارد الطبيعية في اليابان أو سويسرا أو غيرهما من البلاد التي لا تملك سوى مجموعات من الفنيين والخبراء والمتخصصين ممن يجوز أن نجمعهم تحت مسمى المحترفين نظرا لاحترافهم مهن وصنائع محددة ينفقون فيها وقتهم وجهدهم ، هؤلاء هم من أحرزوا قصب السبق لأممهم وبنوا لها صروح المجد والثروة ، استوردوا المواد الأولية من أيدي أصحابها الذين لا يجيدون الانتفاع بأثمان زهيدة بها ثم حولوها بمهاراتهم وخبراتهم إلى سلع نفيسة وبضائع مطلوبة ومفيدة ، فكم تكلف المواد اللازمة لصناعة ساعة الرولكس التي تباع بعشرة ألاف دولار ؟
قرأت مرةً أن المواد الخام الداخلة في صناعة طائرة البوينج 747 جامبو لا تكلف أكثر من 7 % من قيمة بيعها الإجمالية أما الباقي فثمن الوقت الذي أنفقته العقول المتميزة والأيدي المحترفة الماهرة في صياغة تلك المعجزة العملاقة والرائعة .
الموارد ميسورة ومتوفرة للجميع لكن الاحتراف والخبرة والتخصص الدقيق هي ما يصنع الفرق . تُرى كم من مئات الدولارات ينتج برميل البترول الذي يباع اليوم بما يقرب من ستين دولاراً من المواد المصنعة ؟ ، فقط أعد الحساب وستهولك النتيجة .
أما في الوطن العزيز فإن للموضوع وجهٌ أخر يتأثر بالجذور التاريخية والأعراف الاجتماعية ،فقد كان مجتمعنا مشتغلا في غالبه بالرعي والزراعة التقليدية البسيطة ولم تنطلق نهضتنا المعرفية والصناعية العصرية إلاّ في العقود الأخيرة من عهد الدولة السعودية الحديثة فمفاهيم ” المحترف
والخبير ، والفني المتخصص ” هي مفاهيم ومصطلحات جديدة لم نهضمها ولم ترسخ في ذاكرتنا الاجتماعية بعد ، قليل من موظفينا أو من معارفنا من يذهب بعد وقت العمل ليبحث فيما يفيد عمله أو يقرأ أو يطالع أو يلتحق بالدورات التدريبية دون مقابل .
في مجتمعنا ـ وأرجو أن يكون هذا من النقد البناء المقبول ـ لا يلتفت إلاّ قليلا إلى سلوك الإنسان في عمله ومدى حرفيته وجدارته عند تقييمه اجتماعيا ، صحيح أننا نركز على المبادئ والقيم الاجتماعية وعلى السلوك الخاص والعام في أحاديثنا ومسامراتنا لكن لا بد من ملاحظة ما سبق وهذا ما يقودنا إلى النتيجة المحتومة وهي حاجتنا إلى نهضة فكرية مخططة ومنظمة تهتم بقيم العمل وتشجع الاختصاص والاحتراف في كافة المجالات ، فالسباكة على هون أمرها ضرورة ملحّة عند الحاجة إليها وكذا كهرباء المنازل والأجهزة وكما هي حاجتنا للطباخ الماهر والمهندس المبدع ” كلٌّ سيّدٌ في صنعته ” ، لا يقوم أحد مكان أخر ولا يغني عنه .
لا بد من نهضة تشترك في دفعها وترويجها كل قوى الأمة ومختلف فعاليات المجتمع من رسمية وشعبية تنطلق من قاعات الدراسة ومنابر الجوامع إلى شاشات التلفزيون عبر المسلسلات والأفلام والمسرحيات والصحف والمجلات والكتب وصولا إلى مجتمع يزيد من تقدير العمل وقيم العمل ويحترم الوقت والنظام ، يكافيء المتقنين والمتفوقين ويزدري المقصرين والمهملين .

مصافحة أولى لـ”إخبارية عرعر”

سعيد بن شهاب العنزي


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com