سياسة الفتوى


سياسة الفتوى



[SIZE=4][B]
[ALIGN=CENTER]بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى الله على رسوله محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً[/ALIGN].

أما بعد فإن منصب الإفتاء من أخطر المناصب وأعظمها وأشرفها، لأنه توقيع عن الله في بيان شرعه وقول على دينه في بيان حلاله وحرامه ومطلوبه وممنوعه، بل إن ذلك هو المنصب العلى الذي ردَّ الله أمره إليه فقال سبحانه: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ) الآية (النساء:176)، وأذن الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوم فيه بياناً لما أوحى إليه وعصمه من الزلل فيه والخلل، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ) (الأنبياء:45) وقال: (وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً) (الأحزاب : 46 ) وعظَّم اللهُ شأنَ القولِ عليه بلا علم أو بافتراء بأشد أنواع التعظيم والتخويف فقال: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) (النحل : 116) وقال في حق أكرم الخلق عليه محمد صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ* لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) الآيات (الحاقة:44و45)، وفي هذا أكبر تهديد للقائلين عليه بغير الحق، والعلماء هم ورثة الأنبياء والقائمون مقامهم في البيان والدعوة فيلزمهم أن يتبعوهم في التحري والدقة والحذر من القول على الله بلا علم خوفاً من مغبة ذلك وسوء عاقبته، ولابد للمتصدر لإفتاء الناس (وما أكثرهم في هذا الزمان!) أن يعرف مدخله ومخرجه من العلم النافع بالكتاب والسنة وما خُرِّجَ عليهما ويعلم مقاصد الشريعة وأن يكون عالماً بمواقع الفتوى وأهل زمانه وأن يسوسهم بما يصلحهم فإنه مكلف بذلك، فلا يكفي أن يعلم الأحكام ثم ينـزلها كيف يشاء [COLOR=red]فإن للفتوى سياسة كسياسة الدول بل هي أكبر[/COLOR] لأنها تتعلق بمصالح العباد الدينية والدنيوية وقد بين ذلك ربنا عزوجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وسطر ذلك علماؤنا في كتبهم الأصولية والفروعية، كل ذلك رعاية لهذا المبدأ العظيم، فلا يجوز لأحد أن يفتي بمجرد معلومات يعلمها لا يعلم تنـزيلها الصحيح حالاً ومآلاً ومكاناً وزماناً لأن المقصود من الفتوى إصلاح أديان الناس ودنياهم وحفظ مصالحهم الدينية والدنيوية، ولا يحل فيها التسرع فإن الظنَّ خوَّانٌّ، ولا يجعل همه أن يفتي ويجيب السائل، بل ليكن همه أن ينجي نفسه، مما دخل فيه من هذه الورطة العظيمة وهي التوقيع عن الله عز وجل! وقد كثر في هذا الزمان من تصدر لإفتاء الناس عبر الوسائل المختلفة دون تكليف من إمام ولا أهلية علمية بل كثر من يلقي العلوم والفتاوى على عواهنها بلا زمام من دليل ولا رعاية للمصالح الشرعية العامة، وهذا لعمر الله فتنة عظيمة، والله المستعان.

وقد كان أئمة العلم من السلف يتوقون ذلك توقياً شديداً، فهذا الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة على جلالة قدره وسعة علمه حتى قال العلماء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «يوشك أن تضرب الناس أباط المطى فى طلب العلم، فلا يجدون عالمًا أعلم من عالم المدينة» قال الترمذي: وقد روى عن سفيان بن عيينة، قال: هو مالك بن أنس. وهذا كلمة اتفاق من أهل العلم في مالك، ومع ذلك روى عنه خلف بن عمر أنه سمع الإمام مالك بن انس يقول: ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني: هل تراني موضعاً لذلك؟ سألت ربيعة، وسألت يحيى بن سعيد، فأمراني بذلك. فقلت: فلو نهوك ؟ قال: كنت أنتهي، لا ينبغي للرجل أن يبذل نفسه حتى يسأل من هو أعلم منه. وقال ابن وهب سمعت مالكاً يقول: اعلم أنه فساد عظيم أن يتكلم الإنسان بكل ما يسمع. وعن مالك قال: جُنَّةُ العالم: لا أدري فإذا أغفلها أصيبت مقاتله، وقال الهيثم بن جميل: سمعت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فأجاب في اثنتين وثلاثين منها بلا أدري، وعن خالد بن خداش، قال: قدمت على مالك بأربعين مسألة، فما أجابني منها إلا في خمس مسائل. وقال ابن عبد البر: صح عن أبي الدرداء أنَّ لا أدري نصف العلم.
وقد بين الله عزوجل أنه ليس للإنسان أن يتصرف باجتهاده كيف يشاء ولو على وجه الحرص بل لابد أن يعلم المصلحة الشرعية في ذلك ويدفع المفسدة، قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة : 220 ) فعلى كل مفتٍ مراعاة السياسة الشرعية للفتوى، فإن من سياسة الفتوى مراعاة أمور تنبغي العناية بها، منها:

[COLOR=red]أولاً: مراعاة مقاصد الشريعة[/COLOR]:
فإن مقاصد الشريعة من أهم ما ينبغي للمفتي والفقيه مراعاته في اجتهاده قال الإمام الشاطبي في كتاب «الاعتصام» : من لم يتفقه في مقاصد الشريعة فهمها على غير وجهها.اهـ
وقال فيه أيضاً في سياق ذكر أسباب اختلاف الناس في الشريعة: هذه الأسباب الثلاثة راجعة في التحصيل إلى وجه واحد : وهو الجهل بمقاصد الشريعة والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت، أو الأخذ فيها بالنظر الأول ولا يكون ذلك من راسخ في العلم.اهـ
وقال العلامة الفقيه تقي الدين السبكي في كتاب «الإبهاج شرح المنهاج» في الأصول: كمال رتبة الاجتهاد تتوقف على ثلاثة أشياء … [COLOR=blue]الثالث أن يكون له من الممارسة والتتبع لمقاصد الشريعة ما يكسبه قوة يفهم منها مراد الشرع من ذلك وما يناسب أن يكون حكما له في ذلك المحل وإن لم يصرح به[/COLOR].اهـ
وقال الشاطبي في «الموافقات»: إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها والثاني التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها، ..إلخ

[COLOR=red]ثانياً: مراعاة المصالح ودرء المفاسد[/COLOR] :
قال الله تعالى في بيان هذا الأصل: (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (الأنعام:108) في هذه الآية ينهى الله المسلمين من التسرع في إسماع الكفار مسبة الآلهة مع أن ذلك في حد ذاته مقصد شريف، لكن لما كان سبباً في تعرضهم لمسبة الله منعوا من ذلك لأنه يوصل إلى مفسدة أكبر. قال العلامة ابن القيم في كتاب «إعلام الموقعين»: حرم الله تعالى سب آلهة المشركين مع كون السب غيظا وحمية لله وإهانة لآلهتهم لكونه ذريعة إلى سبهم لله تعالى وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم[COLOR=blue] وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز[/COLOR].اهـ .

وهذا أصل عظيم في كل أفعال المكلفين وأهل الفتوى والسلطان أعظم الناس مراعاة له، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وباب التعارض باب واسع جدا لاسيما فى الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة فإن هذه المسائل تكثر فيها وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل [COLOR=blue]ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة[/COLOR] فانه إذا اختلطت الحسنات (أي المصالح) بالسيئات (أي المفاسد) وقع الاشتباه والتلازم فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم فلا يجدون من يعنيهم العمل بالحسنات وترك السيئات لكون الأهواء قارنت الآراء ..[COLOR=blue] فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل وقد يكون الواجب في بعضها العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء لا التحليل والإسقاط [/COLOR] مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلا لمعصية أكبر منها فيترك الأمر بها دفعا لوقوع تلك المعصية مثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركا لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات فيسكت عن النهي خوفا أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر ، فالعالم تارة يأمر وتارة ينهي وتارة يبيح وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة كالأمر بالصلاح الخالص أو الراجح أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح وعند التعارض يرجح الراجح بحسب الإمكان، فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن إما لجهله وإما لظلمه ولا يمكن إزالة جهله وظلمه فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت. كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر، فالعالم في البيان والبلاغ كذلك قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما إلى بيانها.اهـ

[COLOR=red]ثالثاً: مراعاة أفهام الناس وإدراكهم للعلم الملقى إليهم[/COLOR].
قال الإمام البخاري في كتاب العلم من «صحيحه»: [COLOR=blue]بابٌ من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه[/COLOR]. ثم أسند حديث عائشة -المتفق على صحته- قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين باب يدخل الناس وباب يخرجون».
قال الحافظ ابن حجر في شرحه «فتح الباري»: وفي الحديث معنى ما ترجم له لأن قريشا كانت تعظم أمر الكعبة جدا فخشي صلى الله عليه وسلم أن يظنوا لأجل قرب عهدهم بالإسلام أنه غيَّرَ بناءها لينفرد بالفخر عليهم في ذلك! ويستفاد منه: ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة. ومنه: ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه. وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم ولو كان مفضولاً ما لم يكن محرماً اهـ
وقال النووي الإمام في «شرح صحيح مسلم»: وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام منها: [COLOR=blue]إذا تعارضت المصالح أوتعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدئ بالأهم[/COLOR].اهـ

وقال البخاري أيضاً: باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا، وقال علي (يعني بن أبي طالب): حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله.اهـ.
قال الحافظ ابن حجر في «شرحه»: والمراد بقوله «بما يعرفون» أي يفهمون وزاد آدم بن أبي إياس في كتاب العلم له في آخره: «ودعوا ما ينكرون»، أي يشتبه عليهم فهمه، وكذا رواه أبو نعيم في «المستخرج»، وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة ومثله قول ابن مسعود: ما أنت محدثاً قوما حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة، رواه مسلم.
وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان ومالك في أحاديث الصفات وأبو يوسف في الغرائب ومن قبلهم أبو هريرة ونحوه عن حذيفة وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي.

[COLOR=blue][U]وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب والله أعلم[/U][/COLOR]..اهـ.

ثم ذكر البخاري أيضاً حديث أنس بن مالك المتفق على صحته: أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال « يا معاذ بن جبل»، قال لبيك يا رسول الله وسعديك قال: «يا معاذ»، قال لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثا قال: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار»، قال يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا ؟ قال: «إذا يتكلوا»، وأخبر بها معاذ عند موته تأثما.
قال ابن حجر: التأثم هو التحرج من الوقوع في الإثم وإنما خشي معاذ من الإثم المرتب على كتمان العلم وظهر له أن المنع إنما هو من الإخبار عموماً، فبادر قبل موته فأخبر بها خاصا من الناس فجمع بين الحكمين… فكان النهي للمصلحة لا للتحريم فلذلك أخبر به معاذ لعموم الآية بالتبليغ والله أعلم… وللحسن بن سفيان في «مسنده» عن عبيد الله بن معاذ عن معتمر: قال: «لا! دعهم فليتنافسوا في الأعمال فإني أخاف أن يتكلوا».اهـ.
وقال الإمام الشاطبي في «الموافقات. في باب الاجتهاد

[COLOR=darkred][U]ومن هذا يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره وإن كان من علم الشريعة ومما يفيد علما بالأحكام بل ذلك ينقسم فمنه ما هو مطلوب النشر وهو غالب علم الشريعة ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص.[/U][/COLOR]

ومن ذلك علم المتشابهات والكلام فيها فإن الله ذم من اتبعها فإذا ذكرت وعرضت للكلام فيها فربما أدى ذلك إلى ما هو مستغنى عنه وقد جاء فى الحديث عن علي: حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله ..وحديث ابن عباس عن عبد الرحمن بن عوف قال لو شهدت أمير المؤمنين أتاه رجل فقال إن فلانا يقول لو مات أمير المؤمنين لبايعنا فلانا فقال عمر: لأقومنَّ العشيةَ فأحذر هؤلاء الرهط الذين يريدون يغصبونهم، قلت: لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس ويغلبون على مجلسك فأخاف أن لا ينـزلوها على وجهها فيطيروا بها كل مطير وأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة فتخلص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ويحفظوا مقالتك وينـزلوها على وجهها فقال والله لأقومنَّ في أول مقام أقومه بالمدينة.. الحديث. ومنه حديث سلمان مع حذيفة كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأناس من أصحابه في الغضب فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة فيقول سلمان حذيفة أعلم بما يقول فيرجعون إلى حذيفة فيقولون له قد ذكرنا قولك لسلمان فما صدقك ولا كذبك فأتى حذيفةُ سلمانَ وهو في مبقلة فقال: يا سلمان ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب فيقول لناس من أصحابه ويرضى فيقول في الرضى لناس من أصحابه أما تنتهي حتى تورث رجالا حب رجال ورجالا بغض رجال وحتى توقع اختلافا وفرقة ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال «أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون وإنما بعثني رحمة للعالمين فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة» فوالله لتنتهين أو لأكتبن إلى عمر! فهذا من سلمان حسن من النظر …
ومنه أن لا يذكر للمبتدئ من العلم ما هو حظ المنتهى بل يربي بصغار العلم قبل كباره وقد فرض العلماء مسائل مما لا يجوز الفتيا بها وإن كانت صحيحة فى نظر الفقه .. من ذلك سؤال العوام عن علل مسائل الفقه وحكم التشريعات وإن كان لها علل صحيحة وحكم مستقيمة ولذلك أنكرت عائشة على من قالت لم تقضى الحائض الصوم ولا تقضى الصلاة وقالت لها: أحرورية أنت .. إلى غير ذلك [COLOR=blue]مما يدل على أنه ليس كل علم يبث وينشر وإن كان حقاً، [/COLOR]وقد أخبرَ [الإمام] مالكٌ عن نفسه أن عنده أحاديث وعلما ما تكلم فيها ولا حدث بها وكان يكره الكلام فيما ليس تحته عمل، وأخبر عمن تقدمه أنهم كانوا يكرهون ذلك، فتنبه لهذا المعنى.

وضابطه: [U][COLOR=blue]أنك تعرض مسألتك على الشريعة فإن صحت فى ميزانها فانظر فى مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها فى ذهنك على العقول فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم ان كانت مما تقبلها العقول على العموم وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية[/COLOR][/U].اهـ

[COLOR=red]رابعاً: مراعاة فقه الواقع والحال والزمان والمكان الذي تنـزل فيه الفتوى[/COLOR]:
قال العلامة ابن القيم في «الإعلام»: ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
[COLOR=blue]أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً[/COLOR].
والنوع الثاني: [COLOR=blue]فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر، [/COLOR]فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً، [COLOR=darkred]فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله[/COLOR].اهـ

قال أبو بكر الخلال: دخلت على أبي عبدالله أحمد بن حنبل وقد انصرفت من عند أبي همام، فقال: أيش حدثكم اليوم فأخرجت إليه الكتاب فنظر فإذا فيه أحاديث رخصة من كان يركب الأرجوان فغضب، وقال هذا زمان يحدث بمثل هذه الرخص.اهـ وهذه منه رحمه الله مراعاةٌ للوقت والزمان الذي تروى فيه الأحاديث والأخبار عن بعض العلماء فليس كل زمان أو مكان ينقل فيه الخلاف لأجل أن لا تخذ ذريعة للباطل أو الاغراق فيه، وهذا من فقه السلف رحمهم الله في نشرالعلم، قال أبو بكر المروذي سمعت ابن نمير يقول سمعت أبي يقول سمعت الأعمش يقول وذكر حديثه الذي ينكرونه فقال كنت أحدثهم بأحاديث يقولها الرجل لأخيه في الغضب فاتخذوها دينا لا جرم لا أعود لها.

[COLOR=red]خامساً: مراعاة المآلات والمخرجات الناتجة عن إشاعة الفتوى[/COLOR]:
فإن من سياسة الفتوى النظر في مآل الفتوى وما ينتج عنها قال الإمام الشاطبي رحمه الله في «الموافقات» في الاجتهاد: النظر فى مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا سواء كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أولمفسدة تدرأ ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة… فقد قال صلى الله عليه وسلم فى الحديث حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه: «أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» وقوله: «لولا قومك حديث عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم» وبمقتضى هذا أفتى مالك الأمير حين أراد أن يرد البيت على قواعد إبراهيم فقال له لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله.. وفى حديث الأعرابي الذي بال فى المسجد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه حتى يتم بوله وقال:«لا تزرموه» وحديث النهي عن التشديد على النفس فى العبادة خوفا من الانقطاع حيث يكون العمل فى الأصل مشروعا لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة أو ممنوعا لكن يترك النهي عنه لما فى ذلك من المصلحة وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها فإن غالبها تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز فالأصل على المشروعية لكن مآله غير مشروع والأدلة الدالة على التوسعة ورفع الحرج كلها فإن غالبها سماح فى عمل غير مشروع فى الأصل لما يؤول إليه من الرفق المشروع ولا معنى للإطناب بذكرها لكثرتها واشتهارها اهـ
ومن دقة فقه الإمام أحمد بن حنبل نهيه عمَّا لا نفع فيه؛ حيث قال: لا أحب لأحد أن يكتب هذه الأحاديث التي فيها ذكر أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم (يعني الفتنة بينهم)! لا حلال ولا حرام ولا سنن! لا تنظر فيها وأي شيء في تلك من العلم عليكم بالسنن والفقه وما ينفعكم، ذكره الخلال في كتاب «السنة»، وذَكَر أيضاً عن أبي الحارث قال: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل، قلت: هذه الأحاديث التي رويت في أصحاب النبي ترى لأحد أن يكتبها؟ قال: لا أرى لأحد أن يكتب منها شيئاً، قلت: فإذا رأينا الرجل يطلبها ويسأل عنها فيها ذكر عثمان وعلي ومعاوية وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم! قال: إذا رأيت الرجل يطلب هذه ويجمعها فأخاف أن يكون له خبيئة سوء.اهـ
وقد كان السلف رحمهم الله يحرقون تلك الأقاصيص التي تحدث الفتنة ويهجرون أصحابها ورواتها، فقد روى أبو بكر المروذي قال سألت أبا عبدالله (يعني أحمد بن حنبل): إن قوما يكتبون هذه الأحاديث الرديئة في أصحاب رسول الله! وقد حكوا عنك أنك قلتَ: أنا لا أنكر أن يكون صاحب حديث يكتب هذه الأحاديث يعرفها! فغضب وأنكره إنكاراً شديداً؛ وقال: باطلٌ معاذ الله! أنا لا أنكر هذا! لو كان هذا في أفناء الناس لأنكرته! فكيف في أصحاب محمد؟ وقال: أنا لم أكتب هذه الأحاديث، قلت: لأبي عبد الله فمن عرفته يكتب هذه الأحاديث الرديئة ويجمعها أيهجر؟ قال: نعم يستاهل صاحب هذه الأحاديث الرديئة الرجم. وقال أبو عبدالله: جاءني عبد الرحمن بن صالح، فقلت له: تحدث بهذه الأحاديث؟! فجعل يقول قد حدث بها فلان وحدث بها فلان وأنا أرفق به وهو يحتج فرأيته بعدُ فأعرضت عنه ولم أكلمه.

[COLOR=red]سادساً: مراعاة الوسائل التي تنشر من خلالها الفتوى[/COLOR]:
ليس كل وسيلة أو مكان مناسب لنشر العلم والفتوى، وإذا كانت الفتوى من مهمات الدين أو من المسائل الكبار المشكلة التي يقصر فهم الناس لها ينبغي الاحتياط في الوسائل لأجل أن لا تفهم على غير وجهها فقد يصلح لأهل بلد مالا يصلح لآخرين فلا يصلح أن يعمم الحكم في الوسائل الذائعة الانتشار.
[COLOR=red]
سابعاً: مراعاة المسائل الكبرى التي تعم الأمة[/COLOR]:
أو تعم الدولة فتوكل إلى أهلها من أهل العلم أهل الدراية بالمصالح الكبرى للأمة الذين يطلعهم ولي الأمر على مجريات السياسة ومهام الدولة، فما سامع كمن شهد.

[COLOR=red]ثامناً: معرفة أحوال الناس[/COLOR]:
قال الإمام أحمد بن حنبل: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
أولها: أن تكون له نية فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور.
والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة.
الثالثة: أن يكون قويًا على ما هو فيه وعلى معرفته.
الرابعة: الكفاية وإلا مضغه الناس.
الخامسة: معرفة الناس.اهـ
قال العلامة ابن القيم في كتابه «إعلام الموقعين عن رب العالمين»: إن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه.. فإن معرفة الناس أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم (أي القاضي) فإن لم يكن فقيهًا فيه فقيها في الأمر والنهي ثم يطبق أحدهما على الآخر وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح فإنه إذا لم يكن فقيها في الأمر، له معرفة بالناس تصور له الظالم بصوره المظلوم وعكسه والمحق بصورة المبطل وعكسه وراج عليه المكر والخداع والاحتيال وتصور له الزنديق في صورة الصديق والكاذب في صورة الصادق ولبس كل مبطل ثوب زور تحته الإثم والكذب والفجور وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم لا يميز هذا من هذا بل ينبغي له أن يكون فقيهاً في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال وذلك كله من دين الله وبالله التوفيق.اهـ

[COLOR=red]تاسعاً: اجتناب الحيل الزائفة والرخصة السامجة[/COLOR]:
قال العلامة ابن القيم في «الإعلام»: لا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه فإن تتبع ذلك فسَقَ وحَرُمَ استفتاؤه، فإن حَسُنَ قصدُه في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة لتخليص المستفتى بها من حرج جاز ذلك بل استحب وقد أرشد الله تعالى نبيه أيوب عليه السلام الى التخلص من الحنث بأن ياخذ بيده ضغثا فيضرب به المرأة ضربة واحدة وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً إلى بيع التمر بدراهم ثم يشترى بالدراهم تمراً آخر فيتخلص من الربا، فأحسن المخارج ما خلص من المآثم وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم أو أسقط ما أوجبه الله ورسوله من الحق اللازم.اهـ

[COLOR=red]عاشراً: العلم بأصول المسائل ومآخذها من الأدلة[/COLOR]:
يجب على من تصدر لفتوى الناس أن يكون عالماً بمآخذ المسائل والأحكام وأدلتها النقلية والتعليلية، ليكون على يقين أو ظن راجح في صحة فتواه لضرورته لذلك، وليعلم ما يتوقف فيه مما يجزم به، فإن الله سائله عما يقول!
قال العلامة ابن القيم في «الإعلام»: من استفرغ وسعه في نوع العلم كالفرائض وأدلتها واستنباطها من الكتاب والسنة دون غيرها من العلوم أوفي باب الجهاد أوالحج أوغير ذلك فهذا ليس له الفتوى فيما لم يجتهد فيه ولا تكون معرفته بما اجتهد فيه مسوغة له الإفتاء بما لا يعلم في غيره، وهل له أن يفتي في النوع الذي اجتهد فيه؟ فيه ثلاثة أوجه، أصحها الجواز بل هو الصواب المقطوع به والثاني المنع والثالث الجواز في الفرائض دون غيرها، فحجة الجواز أنه قد عرف الحق بدليله وقد بذل جهده في معرفة الصواب فحكمه في ذلك حكم المجتهد المطلق في سائر الأنواع وحجة المنع تعلق أبواب الشرع وأحكامه بعضها ببعض فالجهل ببعضها مظنة للتقصير في الباب والنوع الذي قد عرفه.اهـ.
وهذا لا يعني الاغترار بالنفس بل المراد معرفة بما يجزم بالفتوى به وما يتوقف فيه أو يعرف خلاف أهل العلم فيه، ويسأل الله التوفيق وكشف الحق له، وإلا أمسك وقال لا أعلم، وأحال على غيره، قال ابن النجار الفتوحي في «شرح الكوكب المنير»: لا يفتي إلا مجتهد عند أكثر الأصحاب، ومعناه عن أحمد ، فإنه قال : وينبغي أن يكون عالما بقول من تقدم، وقال أيضا : ينبغي للمفتي أن يكون عالما بوجوه القرآن ، والأسانيد الصحيحة والسنن. وقال أيضا : لا يجوز الاختيار إلا لعالم بكتاب وسنة. قال بعض أصحابنا : الاختيار ترجيح قول ، وقد يفتي بالتقليد.اهـ .
قلت: هذا إذا كُلِّفَ واضطر للإفتاء، أما مع العافية والسعة فلا يجوز! قال صاحب «التلخيص» و«الترغيب»: يجوز للمجتهد في مذهب إمامه ، لأجل الضرورة ، وقال أكثر العلماء : يجوز لغير المجتهد أن يفتي ، إن كان مطلعا على المأخذ ، أهلا للنظر.اهـ. وقال ابن حمدان في «آداب المفتي» : فمن أفتى وليس على صفة من الصفات المذكورة من غير ضرورة : فهو عاص آثم.اهـ .
هذا وقد يضطر المفتي إلى التقليد أحياناً، فليس العالم محققاً لكل مسألة من مسائل العلم؛ بل قد يقلد في أشياء لم يتحقق الصواب فيها، لعدم تفرغه لبحثها أو عدم وصوله للراجح عنده فيها، ويضطر للفتوى فيها، فيأخذ بقول إمام أو فقيه غيره فيفتي به المستفتي! وهل يسمى هذا تقليداً أو نقلاً لمذهب الغير؟ فيه بحث! قال الموفق ابن قدامة في الروضة: قال أصحابنا ليس له (أي المجتهد) تقليد مجتهد آخر مع ضيق الوقت ولا سعته لا فيما يخصه ولا فيما يفتي به لكن يجوز له أن ينقل للمستفتي مذهب الأئمة كأحمد والشافعي ولا يفتي من عند نفسه بتقليد غيره لأن تقليد من لا تثبت عصمته ولا تعلم إصابته حكم شرعي لا يثبت إلا بنص أو قياس ولا نص ولا قياس.اهـ وهذا الكلام في المجتهد الذي قل وجوده، لكن المقلد أو المتبع-وهو من اتبع قول العالم بدليله لا تقليداً- فأمره أخف، قال ابن النجار الفتوحي: وما يجيب به المقلد عن حكمٍ فإخبارٌ عن مذهب إمامه ، لا فتيا. قاله أبو الخطاب وابن عقيل والموفق.اهـ

[COLOR=red]حاديَ عشرٍ: عليه المشاورة المباحثة لأهل العلم[/COLOR]:
قال ابن القيم في «الإعلام»: إن كان عنده من يثق بعلمه ودينه فينبغي له أن يشاوره ولا يستقل بالجواب ذهابا بنفسه وارتفاعا بها أن يستعين على الفتاوي بغيره من أهل العلم وهذا من الجهل فقد أثنى الله سبحانه على المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم وقال تعالى لنبيه ^: (وشاورهم في الأمر) [COLOR=blue]وقد كانت المسألة تنزل بعمر بن الخطاب رضى الله عنه فيستشير لها من حضر من الصحابة وربما جمعهم وشاورهم[/COLOR] حتى كان يشاور ابن عباس رضى الله عنهما وهو إذا ذاك أحدث القوم سناً، وكان يشاور عليا وجهه وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين ولا سيما إذا قصد بذلك تمرين أصحابه وتعليمهم وشحذ أذهانهم قال البخاري في «صحيحه» باب إلقاء العالم المسألة على أصحابه. وأولى ما ألقى عليهم المسألة التي سئل عنها هذا ما لم يعارض ذلك مفسدة من إفشاء سر السائل أو تعريضه للأذى أو مفسدة لبعض الحاضرين فلا ينبغي له أن يرتكب ذلك، وكذلك الحكم في عابر الرؤيا فالمفتي والمعبر والطبيب يطلعون من أسرار الناس وعوراتهم على ما لا يطلع عليه غيرهم فعليهم استعمال الستر فيما لا يحسن إظهاره.اهـ

[COLOR=red]ثانيَ عشرٍ: مراعاة مصلحة الجماعة أهم من تقديم الرأي أو الراجح عنده[/COLOR]:
لما كان أهل العلم مختلفين في علومهم ومداركهم وسياستهم للأمور فاقتضى ذلك ظهور أمور وآراء ومخالفات واختلافات ينبغي تلافيها قدر الطاقة، فإن منها ما يمكن درؤه ومنها ما يصعب، فينبغي درء الاختلاف والتفرق وكل ما يسبب التشويش والتشكيك قدر الإمكان، ولذلك يلزم من تصدى لتعليم الناس وإرشادهم وإفتائهم أن يراعي أموراً ضرورية وحاجية وكمالية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية( ) عند الكلام حول الجهر بالبسملة: » ثم مع قراءتها هل يسن الجهر أو لا يسن على ثلاثة أقوال قيل يسن الجهر بها كقول الشافعى ومن وافقه وقيل لا يسن الجهر بها كما هو قول الجمهور من أهل الحديث والرأى وفقهاء الأمصار وقيل يخير بينهما كما يروى عن إسحاق وهو قول ابن حزم وغيره،[COLOR=blue] ومع هذا فالصواب أن مالا يجهر به قد يشرع الجهر به لمصلحة راجحة فيشرع للإمام أحيانا لمثل تعليم المأمومين ويسوغ للمصلين أو يجهروا بالكلمات اليسيرة أحيانا ويسوغ أيضا أن يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب واجتماع الكلمة خوفا من التنفير عما يصلح كما ترك النبي صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بناء البيت على قواعد إبراهيم لكون قريش كانوا حديثي عهد بالجاهلية وخشي تنفيرهم بذلك ورأى إن مصلحة الاجتماع والائتلاف مقدمة على مصلحة البناء على قواعد إبراهيم وقال ابن مسعود لما أكمل الصلاة خلف عثمان وأنكر عليه فقيل له في ذلك فقال الخلاف شر( ) ولهذا نص الأئمة كأحمد وغيره على ذلك بالبسملة وفى وصل الوتر وغير ذلك مما فيه العدول عن الأفضل إلى الجائز المفضول مرعاة إئتلاف المأمومين أو لتعريفهم السنة وأمثال ذلك[/COLOR] والله أعلم اهـ.
وقال العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ المفتي الأسبق رحمه الله -في تقرير له على قول صاحب زاد المستقنع : «ويحرم تطوع بغيرها في شيء من الأوقات الخمسة حتى ما له من سبب»= قال: والرواية الأخرى ومذهب الشافعي واختيار الشيخ [يعني ابن تيمية] جواز فعل ذوات الأسباب في أوقات النهي ، لكن إذا كان بين أناس فشا فيهم ما عند الأصحاب [يعني الحنابلة] فترك فعلها أكثر مصلحة ،[COLOR=blue] لأن الناس إذا كانوا مستقيمين على طريقة ولو كانت مرجوحة خير، والناس إذا اجتمعوا على شيء وألفوه وهو قول طائفة من أهل العلم فلا يشوش عليهم ، فوجود التغييرات تشوش على العوام . بعض الناس قصده خير ولكن قصير معرفة[/COLOR] .اهـ
وقال رحمه الله: لا بأس بجمع العشاء مع المغرب إذا كان في الليلة ريح شديدة باردة، أما جمع العصر مع الظهر فالذي عليه أئمة الدعوة رحمهم الله وعليه العمل عدم الجمع، حيث إن المشقة في النهار أخف بكثير من المشقة في الليل .اهـ.
وقال في تقرير له مؤكداً على هذا المنهج: الظهر والعصر لا يجمعان للمطر إلا في رواية عن أحمد ذكر صاحب «الافصاح» أنها هي المذهب ، والرواية الأخرى اختصاص ذلك بين المغرب والعشاء ، وهذا قول الجماهير ودليله واضح ، بخلاف الجمع بين الظهر والعصر فإن دليله في ذلك غير واضح ، ولهذا الذي عليه الناس في هذا البلد ونحوها من عشرات السنين هو عدم الجمع بين الظهر والعصر ، [COLOR=blue]ومخالفة ما مضى عليه علماء الوطن المحققون سبب نقص في الدين لا زيادة ولا ركود ، بل يسبب النزاع والشقاق ، ويهون عند العوام أمر الدين ، حتى لا يكتفون أن يسألوا من وجدوا لتحصيل الرخص بل يسلكون بنيات الطريق ، بخلاف ما إذا ساروا على طريقة بعيدة عن النزاع والشقاق، ولو لم يكن من مصلحة إلا خروج من خلاف من يرى أن الصلاة لا تصح[/COLOR] والجمع في مثل هذه الأمور الشواذ نشأ عن أشياء : أحدها الجهل، الثاني : الضعف والكسل ، فيأخذ بالقول المرجوح حقيقة أو نسبياً ومن الناس من يجتهد ويرى أن هذا مقتضى الدليل ولا يكون هو مقتضى الدليل، فيعدل عن الراجح إلى المشتبه ، وهو ما حقق ولا دقق وفي الحديث «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» أمر آخر وهو المشار إليه أولاً أن [COLOR=blue] الخلاف شر في نفسه ، مع قطع النظر هل يحدث شراً بالنسبة إلى المفروضات ،وبالنسبة إلى ما يزعزع كيان الاجتماع على البر والتقوى، والذين قالوه قالوا : هو رخصة لا واجب . وإذا أفتاهم مفت فهو غلطان ، سداً للذريعة ، وعدم شق عصى المسلمين .[/COLOR]اهـ
والذين قالوه قالوا : هو رخصة لا واجب . وإذا أفتاهم مفت فهو غلطان ، سداً للذريعة ، وعدم شق عصى المسلمين .اهـ

وقال رحمه الله في تقرير له حول مقام إبراهيم عليه السلام: إذا عرض عارض جاز تنحيته عن المطاف بلا إشكال، وتنحيته من الموضع الذي هو فيه قرب البيت على جانب المسجد أو قريب من طرف المسجد لئلا يتعثر به الطائفون، ولكون الصلاة خلفه مشروعة، ولا يحصل زحمة لمن يقصد الصلاة عنده، هذه مصلحة، ودرء مفسدة ظاهرة، فإذا اقتضت المصلحة تنحيته فإنه لا مانع من ذلك… وتكلم بعض من لا علم عنده بدون علم أن هذا مكانه أو نحو هذا. وحين صار هذا الشيء وخشي من خوض الجهال ناس يقولون كذا… رؤي من المصلحة أن يترك الآن… المقصود استقامة الأحوال، وأن يكون الناس على نظر واحد.اهـ مختصراً.
فعلى أهل العلم وطلابه التثبت في الفتوى وعدم التسرع والنظر في المآلات والمخرجات وفق الله الجميع لما يحب ويرضى وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

[COLOR=blue]كتبه
سعد بن شايم الحضيري [/COLOR][/B][/SIZE]


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com